الشرق الأوسط أو «الشر.. الأسط» ألف مقال ومقال (4)

 

د. مجدي العفيفي

(19)

ما أجمل أن لا يضطر المرء منا إلى فعل ما لا يوده ولا يريده، إنها سيادة وإرادة وقيادة للذات، إلا أنك قد تضطر لمتابعة ما لا ترغب في متابعته، المهنية تغويك لارتكاب هذا السلوك، في ضياء هذا العزاء الذاتي اضطررت -في سياق هذه السلسلة- الأيام الماضية إلى متابعة تداعيات حدث عودة مسجد «أيا صوفيا» إلى أصله، وهو حدث محلي وشأن داخلي، لكن كما يقال في علم النفس: الانفعال ينبغي أن يكون على قدر الحدث وإلا فقد مصداقيته.

ما كل هذا الخبل الإعلامي؟ ما كل هذا التطرف؟ ما كل هذا الإرهاب؟ سباب وشتائم وتكفير صاحب القرار الرئيس التركي وإرساله ومعه كل ألوف المصلين زمرا إلى الجحيم، وأن هذه القطعان العربية والاجنبية قد نصبوا أنفسهم وكلاء عن الله تعالى وأنهم حصلوا توكيلات من السماء بأن من صلى في مسجد «آيا صوفيا» فهو كافر، وصلاته باطلة، والدعاء غير مستجاب وغير مقبول (!!!).

أرأيتم.. إلى هذا الحد وصل الفُجر الإعلامي، والنفاق السياسي، والسفه الفقهي!

ماذا حدث؟ ما كل هذا النعيق؟

وكما قلت في مقال الأسبوع الماضي إنَّ الموقف مختلف تماما من "تحويل القدس إلى معبد صهيوني.. ثمة صمت مريب.. خرس مبين.. أعين لا يبصرون بها.. قلوب لا يعقلون بها.. آذان لا يسمعون بها.. أقلام مغرضة.. وأحقاد دفينة.. وعلى العكس من ذلك ما نراه حول "آيا صوفيا" مناحة يولولون فيها ليل نهار.. يلطمون الخدود.. ويشقون الصدور.. ويفتحون الجيوب للإنفاق على الحملات المشبوهة في إعلام العالم وفي أرجاء كوكب «الميديا» بموضوعيته وسفاهته.. بجبنه وشجاعته.. بدهائه وبلاهته"!!!

 

(20)

وإذ أكتب مهاد هذه الأطروحة المقالية، فقد تابعت أكثر من مشهد له دلالات قوية وتشي بالكثير من المعاني الدالة، وقيمة كل مشهد أيضا تتجلى في كونه صادرا عن أهل اختصاص وأهل ذكر، يمتزج في منظورهم السياسة بالدين بالثقافة بالفكر بإلانسانية في كليتها.

الصوت الأول.. رسالة مصورة متداولة تقطع الطريق على كل من تسول له نفسه إثارة فتنة طائفية، وهي التهيئة التي استشعرها من حلال كثير من "البوستات والتغريدات والمقالات" هنا وهناك، وهي نار تنفخ في أوراها لتستعر تلك الأيادي المعروفة بدورها في مثل هذه الأمور، هي المنبعثة من الصهيونية العالمية، طبقا لبصماتها الخبيثة المألوفة في هذا السياق.

جوهر كلمة الأب الفلسطيني «مانويل مسلم» رئيس الهيئة الشعبية العالمية لعدالة وسلام القدس، الذي يقطن في قرية «بيرزيت» في الضفة الغربية الفلسطينية المحتلة.. ترتكز على أكثر من إضاءة رجل فكر تنويري الرسالة تشعع بوضاءة عالم دين إنساني المنظور.

الإضاءة الأولى خطاب مكثف جدا تختزله معادلة جميلة في كلمتين: «مادام المسلم يحترم كنيستي فهو يحترمني»، وهي خلاصة رؤيته «انتبهوا أيها المسيحيون لقد ارتفع قدر وكرامة كنيستنا آيا صوفيا، من متحف تدوسه أقدام الأمم، إلى عظمة ومحبة واحترام وتقدير جامع، يسبح فيه اسم الله ويمجد».

الثانية طرح جدلية ذات مغزى تاريخي: «شاءت الأقدار والتاريخ أن تنتقل هذه الكنيسة العظيمة مع أهلها إلى الإسلام، وكما جرى في إسبانيا وأرضنا العربية تحولت بعض كنائسنا إلى جوامع وبعض جوامعهم إلى كنائس».

وهذه يوضحها في الإضاءة الثالثة بمعنى أن «المسيحيين كانوا يقرأون في آيا صوفيا الإنجيل، واليوم يقرأون القرآن، وفي كثير من البلدان التي اندحر عنها الاحتلال خاصة في البلاد العربية، سلمت الكنيسة الكنائس وقد أقفرت من أهلها إلى الحكومات الإسلامية لتتحول إلى جوامع، وفي بعض كنائس المدن في أوروبا يتناوب المسيحيون والمسلمون الصلاة».

ومن ثمَّ تأتي الإضاءة الرابعة ذات أفق أكثر اتساعا يشير فيها إلى أن «الشعوب تتنقل وتغير لغتها ودينها، ومع الشعوب تدخل الجوامع في المسيحية كما تدخل الكنائس في الإسلام، وهذا ما جرى في إسبانيا وهذا ما يجري في بلادنا العربية»، وأن «المسلمين يصلون في بيوتنا وكنائسنا، والمسيحيون صلوا أيضا في المسجد النبوي الشريف».

تبقى الإضاءة الخامسة إذ يدعو الأب مانويل: «أيها المسيحيون لا تمنعوهم أن يصلوا في كنائسنا، فهم شعبنا ونحن شعبهم، وهم دمنا ولحمنا ونحن دمهم ولحمهم، وعلى المسيحي أن يحمي المسلم، وعلى المسلم أن يحمي المسيحي العربي».

أرأيتم النظرة ذات البعد الإنساني، والمنظور الذي يرى خلف الجزئيات المتفرقة، ويحدق فيما وراء الأشياء والأحداث؟

 

(21)

أما المشهد الثاني، فصاحبه حاكم إمارة الشارقة بالإمارات، د. سلطان بن محمد القاسمي؛ إذ طالب قبل أيام بإرجاع مسجد قرطبة في إسبانيا إلى المسلمين.. وقال عبر مقابلة نقلها حساب «الشارقة للأخبار» على «تويتر»: نحن نطالب على الأقل بإرجاع مسجد قرطبة و«أنا طالبت وقيل لي إن البلدية أعطته (المسجد) إلى الكنيسة، فقلت: أعطى من لا يملك لمن لا يستحق.. هذا ملكنا نحن المسلمين» وتحدث الشيخ القاسمي عن حجم التشويه الذي تعرض له الإسلام والمسلمون في محاكم التفتيش، لافتا إلى «أن هذا التشويه في الترجمات القديمة كان هدفه ثني المسيحيين عن إعلان إسلامهم».

 وتاريخيا يعد مسجد قرطبة أشهر مسجد بالأندلس، وكان من أكبر المساجد في أوروبا، وطبقا لكثير من الروايات التاريخية التقليدية -والعهدة على الرواية- يرجع تأسيسه عندما اتخذ بنو أمية قرطبة حاضرة الخلافة الأموية في الأندلس، حيث شاطر المسلمون المسيحيين قرطبة كنيستهم العظمى، فبنوا في شطرهم مسجداً وبقي الشطر الآخر للروم، وحينما ازدحمت المدينة بالمسلمين وجيوشهم اشترى عبد الرحمن الداخل شطر الكنيسة العائد للروم، مقابل أن يُعيد بناء ما تمّ هدمه من كنائسهم، وقد أمر عبد الرحمن الداخل بإنشائه سنة 92 هـ. 785م وكانت مساحته آنذاك 4875 متراً مربعاً، وكان المسجد قديماً يُسمى بجامع الحضرة أمّا اليوم فيُسمى بمسجد الكاتدرائية بعد أن حوله الأسبان كاتدرائية مسيحية، وهي مدرجة على قائمة مواقع التراث العالمي، وأحد كنوز إسبانيا الإثنى عشر.

 

(22)

أما المشهد الثالث، فإن بطله هو سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي مفتى عام السلطنة، الذي ألقي القفاز في وجوه الذباب والبعوض والحشرات الإلكترونية المنبعثة ممن يفترض أنهم أبناء من دول الجوار... وقد تفوقوا في الردح ضده والهجوم عليه، على نساء الحارات الشعبية صاحبات «الملاءات اللف» من السوقة والرعاع.. ردح وسباب وانحطاط يمثل بقايا أخلاق أقل ما توصف بأنها وضيعة!

 وهؤلاء وإن كانوا لا يمثلون جناح بعوضة في منطقة الشرق الأوسط، إلا أنهم يصدق عليهم بيت شعر متوحش للشاعر نزار قباني: "لم يدخل اليهود من حدودنا وإنما تسربوا كأنمل من عيوبنا".

وهذا ما سيتم تناوله في الحلقة القادمة..

 

 (23)

أرأيتم.. ؟ كم هي مفارقات ومتناقضات.. أكثر منها متقابلات وثنائيات..

صحيح أن التعددية تثري الرؤي، وتوسع الآفق، والرأي الواحد لا يجدي، ولم يعد له وجود كمنظور للحياة والعالم والكون.. إلا أن ثمة ثوابت لا ينبغي أن تطغى عليها المتغيرات، وإلا أصبحنا في حالة سيولة في الفكر والسياسة والحياة والمجتمع والثقافة وغير ذلك من المسارات.

 

(٢٤)

يبقي أن أذكر أن «مسجد آيا صوفيا» تم افتتاحه على مرأى ومسمع من العالم.. وصلى فيه الألوف من عباد الله في أمان وسلام، واندحرت الأبواق الكاذبة، وضاع نباحهم أدراج الرياح، وصارت مآذن المسجد تصدح بـ"الله أكبر... الله أكبر"!!!