تصريحات تنغسيري: المدلولات والأخطار (3-3)

 

 

عبيدلي العبيدلي

بناءً على التصريحات الإيرانية التي سبق ذكرها، بما فيها تلك التي أدلى بها تنغسيري، يمكن تلمس الأخطار التي يمكن أن تشكلها إيران على المنطقة العربية عموما، والخليج العربي على وجه الخصوص، وفي الوسع استقراؤها في سياق الظروف القائمة، وتلك المحتملة، في ضوء الظروف المحيطة بهذه المنطقة والحيز الذي تحتله في جغرافية السياسة الدولية.

أول هذه الأخطار، هو قلب موازين قوى التحالفات لصالح المشروع الإيراني المرتكز على سياسة خارجية توسعية ينبض قلبها بمشروع طائفي؛ ففي التلويح بالقدرات العسكرية التي بحوزة إيران، والتي لا تخفي طهران استعدادها لاستخدامها عند بروز الحاجة لها، دعوة مباشرة للحليف الروسي الذي لم تتوقف أحلامه "القيصرية" في الوصول لشمال الخليج أو مضيق هرمز، والسيطرة على حركة الملاحة فيها. تتكامل هذه السيطرة في حال نجاح مشروع الحليف الحوثي في اليمن، بمساعدة طهران في السيطرة على باب المندب. حينها تتحول طرق تجارة النفط تحت سيطرة المحور الإيراني-الروسي، الذي لن يتردد، متى ما تم ذلك، في التعاون مع حلفاء آخرين، شرق أوسطيين، تتلاقى مصالحهم مع تلك المعادلة

ثاني تلك الأخطار، ذو بعد اجتماعي، يصب في طاحونة أي مشروع نهضوي سياسي عربي. يرتكز ذلك الخطر على دعوة مبطنة للقوى الطائفية التي يمكن أن تقبل طهران أن تتحالف معها، ويجذبها مثل هذا الاستعراض الإيراني لعضلاته العسكرية، وتداعبها أحلام الوصول للسلطة على ظهر حصان فارسي. ومن ثم تشهد المنطقة التهاب ساحات عربية أخرى غير متوقعة، ليس من المستبعد ألا تكون هدفا لسيطرة إيرانية مباشرة، لكنها ستصبح لقمة صائغة في فم المشروع التفتيتي الإيراني، القائم على تمزيق النسيج الاجتماعي العربي، في سياق إضعاف الطرف العربي لصالح المنافس الإيراني. هنا ستندلع نيران حروب عربية داخلية داخل كل قطر عربي على حدة، وبين كل دولة عربية وأخرى. والمحصلة وهن يدب في الجسد العربي لصالح قوة تنتشر في عضلات المشروع الإيراني التوسعي.

ثالث تلك الأخطار، والذي قد يبدو شكليا متناقضا مع الخطر الإيراني الأول لكنه يتكامل معه، حين ندرك أن السياسة الخارجية الإيرانية تقوم على وضع السيناريوهات، ولا تكتفي بسيناريو واحد. فمن غير المستبعد ان يكون في ثنايا ذلك التصريح، دعوة مبطنة لواشنطن أو أكثر من عاصمة أوروبية غربية، تحثها على التعاون مع "الطرف الأقوى"، بخلاف تل أبيب في المنطقة، وبأنه، أي هذا الطرف، لديه الاستعداد لمد يد التعاون للإنخراط في أي مشروع دولي قادم لصالحه، وعلى حساب التحالفات الدولية العربية.

رابع تلك الأخطار أن يكون الغرض من وراء تلك التصريحات، إرسال رسالة غير مباشرة عن رغبة إيران في تطوير منظومتها العسكرية التقليدية غير النووية. ومن ثم، فهذا يفتح بابا أمام الدول الغربية كي تحد من تفاقم أزمتها الاقتصادية الناجمة عن تفشي جائحة الكورونا، وما حملته معها من كساد اقتصادي بات يهدد استقرار دول غربية كثيرة. يتحقق ذلك عن طريق صفقات سلاح غير تقليدي ضخمة، تنعش ذلك الاقتصاد من جهة، وتنعش معه الأحلام التوسعية الفارسية من جهة ثانية. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن حظر الأسلحة على إيران يقتصر لدى بعض تلك الدول على النووية منها فحسب.

خامس تلك الأخطار، هو أن تكون تلك النبرة العسكرية التهديدية الواضحة في تصريحات تنغسيري هي بمثابة تحذير مباشر للعواصم الخليجية، الأمر الذي لا يضعها أمام أي خيار آخر سوى تعزيز قدراتها العسكرية، تحسبا لأي طارئ، وهذا يصب في مشروعات إنهاك الاقتصادات الخليجية، بإثقال موازناتها بتبعات تطوير منظوماتها العسكرية على حساب خططها التنموية. ومحصلة ذلك المباشرة هو انقلاب في موازين القوى في المنطقة لصالح الطرف الإيراني.

سادس تلك الأخطار هو استخدام هذا الاستعراض للعضلات العسكرية الإيرانية في مفاوضات تقوم على تحييد الحضور العسكري الإيراني في منطقة الخليج، لصالح مشروعها الشرق الأوسطي الآخر المرتكز على سياسة القضم الصغير المتواصل لترسيخ نفوذها في المنطقة العربية خارج المحيط الخليجي، وتحديدا في سوريا ولبنان، دون التفريط فيما تحصده في اليمن. وهذا مشروع إستراتيجي إيراني طويل الأمد، يدغدغ عواطف من لا يزالون يحلمون بإمبراطورية كسرى أنو شروان الفارسية، مطعمة بنكهة دينية.

ما يُغري طهران بفرد أجنحة مشروعها المتكامل، الذي تكشف تلك المخاطر العديد من جوانبه، هو الجغرافيا السياسية لمنطقة الشرق الأوسط التي تعاني من فوضى غير مسبوقة في تاريخها الحديث والمعاصر. فعلى امتداد النصف القرن المنصرم، لم تتوقف الحروب العربية-العربية، إن جاز لنا القول. أخذت هذه الحروب مستويين؛ الأول: تغذيه الصراعات الداخلية المتأججة بين كل قطر عربي على حدة، وتشعل فتيل نيرانه وتنعشه عوامل كثيرة تسيرها إرادات خارجية، لها مشروعاتها الخاصة بها، والمتضاربة موضوعيا مع أي مشروع وحدوي عربي ممكن. أما الثاني منها فهي في نطاق كل قطر عربي على حدة، تقوده تلك الفئات المتخندقة تحت رايات مختلفة، ليست الطائفية سوى الأبرز بينها.

أمام تلك الأخطار الإيرانية التي من الطبيعي أن يكون هناك غيرها في قائمة المشروعات الإيرانية، تحضر من يخشى على مستقبل هذه الأمة العربية المثخنة بجراحها، أسئلة كثيرة متداخلة، وترتفع أمام ناظريه علامة استفهام كبيرة تدعوه للإجابة عن سؤال ملح لم يكف عن التنقل من عاصمة عربية إلى أخرى بحثا عن إجابة شافية ترد على ذلك السؤال وهي: ما هو العمل العربي المطلوب لدرء تلك الأخطار والدفاع عن حوض الأمة العربية؟

قد يرى البعض في مثل هذا التساؤل شيئا من السذاجة السياسية، وقد يعتبره البعض شكلا من أشكال الهروب نحو الأمام بدلا من مواجهة الواقع العربي.

لكن طبيعة الجغرافيا السياسية للمنطقة العربية، ودرجة توغل العنصر الخارجي في صنع سياساتها الداخلية، تضع، ووضعت في مراحل كثيرة من تاريخ العربي الحديث والمعاصر ذلك العامل الخارجي في الأهمية الأولى، متخطيا بفضل ذلك فيها نظيره الداخلي العربي، في الأولوية ودرجة التأثير.