الشرق الأوسط أو «الشر.. الأوسط» ألف مقال ومقال (3)

 

د. مجدي العفيفي

لأن التاريخ أكبر جهاز لتكييف "الهوى"!

 (1)

نقد الذات مباح ومتاح وضرورة للكشف والاكتشاف.. لكن جلد الذات مرفوض وممقوت، فهو بلغة علم النفس نوع من أنواع «السادية» والمفارقة أن المتربصين بذاتنا الشرقية والعربية تحديداً يستغلون هذه المسألة أسوأ استغلال فيحرضون كثيراً على جلد الذات تحريضاً شرساً.

وفي سياق نقد الذات أتساءل: ما بالنا نثرثر حول أشياء هامشية، ونتغافل عن أحداث جوهرية؟ نعم «ما أشد حماقة من دخلت الأفاعي والعقارب تحت ثيابه وهمت بقتله، وهو يطلب مذبة يدفع بها الذباب عن غيره ممن لا يعنيه ولا ينجيه مما يُلاقيه من تلك الحيات والعقارب إذا همت به» على حد مقولة الإمام أبي حامد الغزالي قبل ألف عام أو يزيد.

لماذا تضيع منا الأولويات ويضيع من أقدامنا الطريق؟. أم أن أقدامنا هي التي تزل بعد ثبوتها فتتوه وتضل؟ لا فرق.. يبدو ذلك! فالاستنزاف مستمر، والنزيف مستعر في القلب العربي المسكون بالأوجاع المحتلة أرجاءه، والمشحون بالأوضاع المختلة أطيافه، ويتحداه سؤال، أو قل هي إجابة تبحث عن سؤال: إلى متى؟

رحم الله «فقه الأولويات» الذي جرى حبسه وراء قضبان معانٍ مغلقة، واعتقاله في مساحات ضيقة، مع أن فلسفته تنسحب على الحياة في جدلياتها وتناقضاتها، وتتجاوز الحد التقليدي إلى الأفق الكوني.. وتحرض على اللَّامفكر فيه.. لكن أكثرهم لايعلمون.

ترى ماذا يقول هؤلاء الذين يشغلون الناس بهذه المسألة التي لا يزال تسويقها يجري بتضخيمها عن سبق إصرار وعن عمد وترصد، بصورة في ظاهرها براءة مقنَّعة، وفي باطنها نار مستعرة.

(2)

أقول قولي هذا وأنا أرصد واحدة من الظواهر الكثيرة والمثيرة والمريبة التي ترفع حاجب الدهشة فلا ينخفض ولا ينبغي، بل تجعل المرء منِّا يتميز من الغيظ الفكري والقومي، الذاتي منه والموضوعي، إذ جمعت حتى الآن حوالي الألف مقال وفيديو و«بوست» عن إعادة متحف «أيا صوفيا» إلى أصله إلى كونه مسجدا.

ولحظة أن حدقت في هذه «الكمية» من الأطروحات وجدت معظمها شتائم ذاتية ومجرد سباب شخصي، بغض النظر عن الاختلاف أو الاتفاق مع القرار، ولابد أن نتفق ونختلف، ولذلك خلقنا الله، أليس كذلك؟!

وهذه قضية أخرى لها سياقها، مع الوضع في الاعتبار أن دلالة الحدث نفسه هي التي تعني كاتب هذه السطور، فالمحور هنا هو «آيا صوفيا» بين المتحف والمسجد، وهو قرار خاص بالمكان الذي يقع فيه، وليس من حق أحد أن يتدخل في سياسة دولة أخرى حتى لايتم التعامل بالمثل، ونصبح في فوضى دولية، وعملية غير متحضرة، وبعيدة عن أخلاقيات السياسة التي ينبغي أن تكون، إن كان للسياسة أخلاقيات.

 (3)

في مقابل تلك الكمية من الاستنكارات.. تتجلى الظاهرة التي أشرت إليها قبل سطور إذ تشغلنا «الهوامش» فنترك «الدفاتر» لتستعر «نكسة» فقد الأولويات.

عن تحويل القدس إلى معبد صهيوني.. لم يكتب أحد، أي أحد من حملة الأقلام هؤلاء، ومعظمها أقلام سامة ومدلسة، وموجهة لتندفع كالخرتيت في اتجاه واحد، فهم صم بكم عمي عن هذه الجريمة الإنسانية الكونية، فهم لا ينبسون ببنت شفة، كانوا ولا يزالون، وقد اغمضوا عقولهم، وأحكموا عليها أقفالها.

عن تحويل القدس إلى معبد صهيوني.. لم يوجه أحد من هؤلاء، كلمة واحدة إلى الكاوبوي الأمريكي ترامب عن فعلته التي ارتكبها، في حق القدس، المدينة والتاريخ والدين والثقافة والجغرافيا والناس والذاكرة والحاضر والحضارة والآثار والمآثر والحقوق الفسطينية المنهوبة، والخيرات العربية المغتصبة والدماء الشرقية الذكية التي امتصها الغرب الحاقد عقودا وقرونا، ولايزال يغتصب وينهب يلدغ ويمتص حتى الثمالة.

عن تحويل القدس إلى معبد صهيوني.. لم ينجح أحد في قول كلمة حق.. لم يكتب أحد، وحتى لم يشجب مخلوق من هذه المخلوقات، ولم يستنكر كائن بشري واحد من هذه الكائنات «ولو على الطريقة إياها». ولو ذرا للرماد في العيون.

(4)

عن تحويل القدس إلى معبد صهيوني.. صمت مريب.. خرس مبين ..أعين لا يبصرون بها ... قلوب لا يعقلون بها.. آذان لا يسمعون بها.. أقلام مغرضة.. وأحقاد دفينة.. وعلى العكس من ذلك ... ما نراه حول (آيا صوفيا) مناحة يولولون فيها ليل نهار.. يلطمون الخدود.. ويشقون الصدور.. ويفتحون الجيوب للإنفاق على الحملات المشبوهة في إعلام العالم وفي أرجاء كوكب «الميديا» بموضوعيته وسفاهته.. بجبنه وشجاعته.. بدهائه وبلاهته.

وإن تعجب فعجب ممن يستشهدون بما تذكره وسائل إعلام أجنبية مطبوعة ومرئية ومسموعة على أنها مرجعية «تأريخية» ومصدرية «تاريخية» وهي المعروف عنها أنها تتحرك في استراتيجيتها الصحفية والفكرية بناء على توجيهات الصهيونية، وفوقها أرجل وأقدام الماسونية العالمية بكل قبحها وشراستها، وتستعين بالتاريخ الذي تقيأه مؤرخو العصور الوسطى، وما أدراك ما العصور الوسطى ومحاكم التفتيش، بما فيها ومن فيها، والجرائم التي ارتكبت مما لا يعد ولا يحصى، وإن تعدوا جريمة منها لا تحصوها، إن التاريخ لظلوم كذاب.

(5)

نعم.. إنَّ التاريخ أكبر جهاز لتكييف "الهوى"!

والشواهد ماثلة والمشاهد دالة.. لمن أراد أن يذكر أو أراد تاريخا حقيقيا!

 (6)

وإذ أكتب مهاد هذه الأطروحة المقالية، فقد تابعت صوتين لهما دلالات قوية وتشي بالكثير من المعاني الدالة، وقيمة كل منهما أيضاً تتجلى في كونها صادرة عن أهل اختصاص وأهل ذكر، يمتزج في منظورهم السياسة بالدين بالثقافة بالفكر بإلانسانية في كليتها.

ولهذا حديث آخر قادم.