عبد الله العليان
قبل عدة أسابيع من هذا الحدث التاريخي، يوم الثالث والعشرين من يوليو 1970، وتولي المغفور له بإذن الله تعالى السُّلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- مقاليد الحكم، وبمُناسبة مرور 50 عامًا على هذا اليوم الخالد، الذي لا ينسى من الذاكرة الوطنية العمانية، نود التذكير بأنَّ الأوضاع كانت صعبة ومتوترة في كل عمان، وكانت ظفار، بحكم وجود الثورة في الجبال منذ عام 1965، شدد السلطان سعيد بن تيمور على مدينة صلالة، والقرى القريبة منها، سواء بمنع المواطنين من الهروب إلى الجبال، أو المنع من السفر للخارج.
وكان المواطنون يهدفون من الهروب- بسبب المنع من السفر للخارج خاصة للدول المجاورة- إما للتعليم لما بعد المرحلة الابتدائية، أو للبحث عن العمل من أجل سبل العيش الكريم في غالبيتهم؛ حيث لا يوجد مجال للعمل في ظفار، وبعضهم هرب للانضمام للثورة، وكانت كل المدن العمانية أيضاً تُعاني من هذه الظروف الصعبة، وكانت الغالبية من المواطنين، مؤيدة للثورة بحكم الأوضاع المأساوية والتخلف في كل المجالات، إذ لا عمل للشباب، ولا تعليم أفضل، سوى المدرسة الابتدائية، ولا شيء غيرها، ومع ذلك، يتم قبول أعداد قليلة من الطلاب، بعد مُوافقة السلطان سعيد على أسماء من يختارهم، وقد يتم رفض بعض أسماء لأسباب، أن آباءهم غير مرضي عنهم لسبب من الأسباب!
كانت صلالة بعد عمل السياج الحديدي على المدينة، ومداخلها الأساسية أثرت على معيشة المواطن وحركتهم، والشيء الغريب منع استعمال الراديو، إلا برخصة من السلطان نفسه! ولا نعرف لماذا منع استعمال المذياع، لربما حتى لا يسمع الناس أخبار الإذاعات العربية الثورية، ومنها صوت العرب، في فترة المد القومي المؤثر؛ حيث أصبح الشباب متعلقون بهذا المد القومي، خاصة المرحلة الناصرية، وكانت الانقلابات رائجة في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وهذه كان لها تأثيرها على مجمل الأوضاع في عُمان من حيث التشديد على السفر، أو الهروب للجبال، بعدما تأسست الثورة في جبال ظفار، لذلك كثرت الممنوعات التي بعضها زاد عن الحد المعقول في تفسيرها، إذ بعضها امتد إلى منع الجلوس في المساجد، بعد صلاة العشاء مُباشرة، وعدم الخروج في الشوارع بعد العاشرة مساءً، إلى جانب إلى أن التحويلات المالية التي كانت تأتي من المسافرين، عن طريق عدن توقفت، وكذلك البضائع التي كانت المورد الوحيد للتجارة بين ظفار وعدن، توقفت تماماً بعد استقلال اليمن الجنوبي، مع تطبيق القرارات الاشتراكية بحذافيرها، كما صيغت مع بداية الثورة البلشفية 1917.
ولذلك عاشت مدينة صلالة، في أوضاع معيشية لا تطاق، بعد اشتداد الحصار عليها ضمن تلك الأوضاع المتردية، كانت حياة الناس لا توصف من المُعاناة التي تتصعب يومًا بعد يوم، إذ لا يوجد ما يخدم قطاعات المجتمع، ولا في إنماء حياتهم ومعيشتهم المتواضعة، فقد كانت الزراعة هي الرافد الأساسي لحياة غالبية السكان في مدينة صلالة وبعض الولايات الأخرى، إلى جانب تربية الحيوانات بالنسبة للبعض الآخر. وتأتي مهنة صيد الأسماك في المرتبة الثالثة، في نشاط السكان، خاصة صيد "السردين" بكميات كبيرة من خلال تعاون مجموعات من الأفراد في إنشاء "ضاغية" مشتركة لصيد السردين. وكانت الثورة في أواخر الستينيات من القرن الماضي، شبه مسيطرة على أغلب الولايات في محافظة ظفار، خاصة ولايات طاقة، وسدح، وفي الشرق من ظفار، ولاية ضلكوت وولاية رخيوت، وكانت مدينة صلالة تقصف أحياناً بالقنابل عن بعد، على المطار العسكري في المدينة، وكنَّا نسمع هذه القذائف ليلاً، والرد من المدفعية الحكومية على القصف، وكنا نسمع أخباراً عن نزول الثوار وتحركاتهم في ولايات طاقة مرباط وسدح، وعن خطف بعض المواطنين هناك بدعوى "عمالتهم" للحكومة، وزادت هجمات الثورة على معسكرات الحكومة، بعد سيطرة الجناح اليساري، في الجبهة القومية لليمن الجنوبي، بالانقلاب الذي جرى على الجناح القومي عام 1968، المتمثل في الرئيس قحطان الشعبي، والقيادي والمنّظر في الحركة القومية اليمنية عبد اللطيف الشعبي، ولاقت الثورة في ظفار دعماً إضافياً، بعد توقف الدعم المصري بعد تغيير اسم جبهة تحرير ظفار وعودة القوات المصرية من اليمن.
وكان السلطان قابوس- تغمده الله بالرحمة والمغفرة- بعد عودته، من دراسته العسكرية والنظامية، قلقاً على أوضاع عُمان السياسية والعسكرية، وتردي أحوال الشعب المعيشية في كل عُمان، ولم يكن السلطان سعيد يسمح له بالخروج، إلا في مُناسبات محدودة في مدينة صلالة، حتى عروض الهبوت في الأعياد الدينية التي تُقام في الميدان المحاذي لقصر الحصن بصلالة لا يحضرها، ويحضرها والي ظفار آنذاك الشيخ حمود بن حمد الغافري، وكان المرحوم السُّلطان قابوس- وقد كتبت عن ذلك- نراه وهو يستعمل آلة التقريب (المنظار)، لمُشاهدة عروض الهبوت المدن عن بعد، ويتنقل من نافذة إلى أخرى للمشاهدة، حيث إنَّ مسجد الحصن كان يحجب جزءا من الميدان، عن مقر إقامته، ليتعرف على الوجوه في هذه العروض، وكنَّا ونحن في ذلك السن، نشاور بأيدينا إلى السُّلطان قابوس، وهو يتابع من بعيد هذه العروض.
وفي منتصف عام 1969، تناقلت الأخبارعلى نطاق ضيق، أن قابوس سيتولى الحكم قريباً، وربما جاء الخبر من خلال بعض المُتابعين للصحف الغربية، التي يُقال إنها نشرت ذلك، وقد تكون هذه الأخبار مجرد تنفيس عن النفس من البعض نظراً للظروف الصعبة، والأمل في التغيير. ومع بداية عام 1970، بدأت التحركات للتغيير، عندما وجد السلطان الراحل قابوس-رحمه الله- ألا مفر من التغيير بأيِّ وسيلة كانت، لإنقاذ عُمان من وضعها المتردي في كل المجالات، دون أمل في تغيير الظروف القائمة، فشاءت الظروف أن يتحقق هذا التغيير التاريخي لعُمان في 23 يوليو 1970.. وللحديث بقية.