تصريحات تنغسيري: المدلولات والأخطار (2- 3)

 

عبيدلي العبيدلي

في تلك التصريحات مجموعة من الدلائل التي تعبر عن نفسها في شكل رسائل تبعث بها السلطة الإيرانية للمواطن الإيراني في الداخل، ولدوائر صنع القرار في الخارج. فعلى المستوى الداخلي يمكن فهم هذه فحوى تلك التصريحات بمثابة إشارات تحريضية تستنهض المشروع الفارسي، الذي ربما بهت على مر العصور، في نفوس المواطن الإيراني، الذي كما أسلفنا، لم يعد بوسعه التفكير خارج دائرة تأمين لقمة عيشه، ومواجهة الأزمات المتلاحقة التي باتت لا تكف عن مطاردته، وعمقت منها جائحة الكورونا، التي وضعت طهران في رأس قائمة الدول الأسوأ إصابة في منطقة الشرق الأوسط، على صعيد عدد الإصابات والوفيات الناجمة عنها على حد سواء، وما تلاها من تداعيات اقتصادية مست صلب الاقتصاد الإيراني المثقل بتبعات سياسات التوسع الخارجي التي لم تكف عنها طهران منذ انتصار الثورة الخمينية.

وفي السياق ذاته، هو تأكيد للذات، ودعوة للمواطن، كي يقبل بأن "الثورة"، لم تتراجع بعد لصالح "الدولة"، كما قد يتوهم البعض، وأنه، كما أشرنا إلى مواد في الدستور الإيراني، ما يزال واجب "نشر الإسلام الشيعي" خارج حدود الدولة الفارسية مشروع حيا وقائما. ولذلك فيحق للقوات الإيرانية ان تنتشر خارج حدودها تلبية لنداءات "تلك الثورة" من وجهة النظر "الرسمية الإيرانية". وليس هناك أفضل من ترسيخ ذلك في الأذهان من الحديث الاستعراضي عن سعة الرقعة الجيو سياسية التي تشكل الدائرة التي تريد السلطات الإيرانية لـ "نجاحات تلك الثورة" ان تشبعها.

أما على المستوى الخارجي المحض، فهو أول رسالة مباشرة من مجموعة رسائل اقليمية موجهة نحو دوائر الحكم في إسطنبول، تقول لها إن عدتم للمشروع "العثماني السني" بتدخلكم العسكري المباشر في ليبيا بعد سوريا، فمن حقنا أن نحيي مشروعنا "الشيعي الفارسي" الذي تشكل دوائره الأولى المباشرة منطقة الجزيرة العربية. وفي طي هذه الرسالة وبين ثناياها أيضا خطاب مرافق موجه للبلدان العربية يؤكد لها أنكم، من وجهة النظر الإيرانية، طالما لم تردوا الصاع صاعين للقوات التركية التي تعربد في ربوع ليبيا، بعد سوريا، فمن غير المنطقي أن تسلكوا خلاف ذلك أمام قوات أجنبية إيرانية، في حال تقدمها لاحتلال شواطئ عربية، وستتكفل خلافاتكم الداخلية بلفت تنظركم عن، وليس نحو، تلك القوات.

وفي نطاق تشبيع دائرة المدلولات الخارجية، في تلك التصريحات يجدر التنويه إلى أن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم، حتى وإن كان محض استعراضي، ومن ثم فأمام احتمال خطوة غربية متهورة من قبل واشنطن تقود نحو عمل عسكري تجاه طهران، فمن الأفضل التحشيد ضدها من الآن كي لا تؤخذ طهران على حين غرة. فتكون قواتها، بل وحتى مواطنيها على إهبة الاستعداد للتصدي لمثل هذا الهجوم فيما لو حصل.

واستمرارا في الحديث الموجه للخارج، يجد المتابع لها، أنها دعوة واضحة وصريحة نحو عواصم الدول العظمى، الشرقية منها والغربية تقول أن إيران على استعداد لاستيراد المزيد من الأسلحة التقليدية، غير النووية، بما فيها تلك الهجومية. ومن ثم فمن لديه الرغبة في التصدير، سيجد لدى إيران الاستعداد للاستجابة، دون أي اعتبار لأية معيقات أخرى، بما فيها تلك العقيدية أو الإيدلوجية.

وتملك طهران رصيدا تاريخيا غنيا في هذا المجال، فهي لم ترفض العون الذي تلقته من تل أبيب وواشنطن أبان الحرب الإيرانية – العراقية، وكشفت تفاصيله المعلومات التي تسربت عن صفقة "الكونترا" او ما عرف حينها باسم "إيران غيت". ولا شك أن تلك العواصم ستجد في مثل هذه الإشارة فرصة تاريخية لا تعوض للتعافي من الركود الاقتصادي الذي ألحقته جائحة الكورونا بها. عليه فمن غير المستبعد لن نشهد في الأشهر القليلة المقبلة تدفق أسلحة متطورة من الشرق والغرب على طهران، دون ان نستثني منها، البعض الذي قد يساعد في تطوير المشروع النووي الإيراني.

في السياق ذاته، وفي إطار تحسين العلاقات مع العواصم الغربية المعادية، ينبغي ألا نستبعد أن هذه التصريحات قد تمت صياغتها بدقة متناهية كي تستنفر البلدان العربية، فتجتاحها حمى تسلح جديدة تستفيد منها الدول الغربية. وهنا تضرب طهران أكثر من عصفور بحجر واحد، الأول منها هو "تحييد" الغرب تجاه مشروعها النووي، وثانيها إعادة تسليح نفسها بمعدات عسكرية متطورة، والثالث وهو الأهم، عززت من متانة جسور التعاون مع تلك العواصم، التي حرمتها من بعض الأسلحة الغربية الصنع التي ما تزال بحوزة القوات المسلحة الإيرانية، وبحاجة إلى تحديث أو صيانة. كما ان مثل تلك التصريحات من شأنها أن تزيل بعض الصدأ من فوق قنوات التواصل الإيراني – الغربي.

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا، هو ما الذي يدعو طهران، كي تدفع تنجسيري ليدلي بمثل تلك التصريحات، وفي هذا الوقت بالذات؟

الإجابة الأكثر منطقية هي ان حسابات طهران، والتي ربما لا تكون مخطئة، أن هذا الوقت هو اللحظة الأكثر ملاءمة لتحقيق الأهداف المعلنة وغير المعلنة التي تحملها إيران تحت جبتها.

يتصدر تلك الحسابات الشأن الداخلي، فليس هناك ما هو أفضل لامتصاص النقمة الداخلية المتصاعدة، من دعوة المواطن للتأهب من أجل مواجهة عدو خارجي، تمس "أطماعه" من وجهة النظر الإيرانية مشروعات "الثورة الإسلامية" وفق المقاييس التي تروج لها طهران. ومن ثم، ولضمان تحول أنظار الشعب نحو "عدو خارجي محتمل"، قادر على التخفيف من المعاناة التي يعيش ذلك الشعب تحت وطأة عواملها.

يأتي بعد ذلك الشأن الخارجي، وهو قناعة طهران انشغال العالم بقضايا أخرى، أكثر أهمية، مثل الحرب التجارية بين واشنطن وبكين تتصدر قائمة أولويات تلك الدول والدول الأخرى الحليفة لها، تتيح هامشا أوسع أمام الدول الأخرى، مثل إيران، كي تتحرك في دوائر لا تتجاوز حدودها الجغرافية، التي ستكون حينها بعيدة عن طاولات دوائر الصراعات الأولى. ومن ثم فمن المناسب خلق حقائق على أرض الواقع، تساعد نزعة طهران التوسعية فيما لو وضعت منطقة الشرق الأوسط، وعلى وجه أكثر تحديدا منطقة الخليج العربي تحت مجهر العلاقات الدولية.