يوسف بن حمد البلوشي
يُحاول هذا المقال التأكيد على أنَّ عُمان على أبواب نهضة جديدة تبنى على مكتسبات العقود المُنصرمة وتتبنى آليات ومُقاربات جديدة تحتاج في الوقت الراهن الاهتمام بغرس بذور لقاطرات المُستقبل، ومن أهمها مؤسساتنا الناشئة والصغيرة والمتوسطة التي إن حظيت اليوم بالرعاية والعناية المُناسبة فستكون غداً حصاد وأدوات الإنتاج والتصدير في المستقبل المأمول.
عمان وغيرها من الدول في مواجهة متغيرات ورياح قوية والأمر يستوجب حالة استثنائية من التنظيم والعمل بفكر جديد لإعادة توجيه الطاقات البشرية والطبيعية والمؤسسية والبنية الأساسية في القطاعات المختلفة، وبناء منظومة متكاملة بصلاحيات تمكنها من الاهتمام بهذه الشريحة الهامة من مجتمع الأعمال لتكون قادرة وبكفاءة على التركيز على جميع حلقات سلاسل التوريد.
وحيث تتعدد جوانب التحديات لهذا القطاع، تزداد الحاجة لإزالة الحواجز التي تواجهه والتعرف على ما يحجّم نموه وقيامه بالدور المنوط به، مؤكدين من نظرة التفاؤل والثقة، على أننا نستطيع المضي قدمًا وتسوية الأشرعة بالشكل الملائم للإبحار بالسفينة العمانية الأصيلة في بحر تتلاطم أمواجه وتشتد رياحه من كل اتجاه. ولا يخفى أنَّه لا تكاد تخلو أية وصفة للتنمية من تناول المؤسسات الناشئة والصغيرة والمتوسطة كأداة محورية لتحقيق التحولات الاقتصادية وتوفير فرص العمل وتمكين جميع القطاعات واجتذاب الاستثمار الأجنبي. نتناول اليوم قطاع المؤسسات الناشئة والصغيرة والمُتوسطة في السلطنة بعين فاحصة مرماها تحسين الأداء وتسريع الخطى وبدء مرحلة جديدة من الإنجاز. ومع تقديرنا للجهود الكبيرة المبذولة على مختلف المستويات في هذا الاتجاه إلا أنَّ الإنجازات لا تزال مُتواضعة ودون المأمول مقارنة بإمكانيات وشغف الشباب العُماني، ما يخلق فجوة قابلة للاتساع إذا ما بقي التعامل مع هذه المؤسسات بلا عنوان تنموي واضح وممكّن وملموس، يُعالج التحديات الماثلة أمامها، ليفاخر بأدوارها الاقتصادية المستقبلية بكل ثقة.
عالمياً، تشير البيانات إلى أنَّ الشركات الصغيرة والمتوسطة تمثل نحو 95.0% من إجمالي الوحدات الاقتصادية في معظم دول العالم، وتسهم هذه الشركات بنحو 33.0% من الناتج المحلي الإجمالي في الدول النامية، ونحو 64.0% في الدول المُتقدمة. فيما توفر هذه الشركات نحو 60.0% من فرص العمل في الدول النامية، وما يزيد عن 70.0% في الدول المُتقدمة.
وعلى صعيد الدول العربية، تشير مصادر صندوق النقد العربي إلى أنَّ هذه الشركات تمثل ما بين 90.0% و99.0% من إجمالي الوحدات الاقتصادية الرسمية، وتسهم في الناتج المحلي الإجمالي بنسب متفاوتة تتراوح ما بين 22.0% و80.0%، في حين توفر ما نسبته 10.0% إلى 49.0% من إجمالي فرص التشغيل في القطاع الرسمي، حيث تقل هذه النسب عن متوسط الدول النامية والبالغ 60.0% في إشارة واضحة إلى التحديات التي تواجه هذه الشركات في الدول العربية بشكل عام، حيث السلطنة ليست استثناءً.
وفي السياق المحلي، على الرغم من الاهتمام الكبير بقطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والذي ترجم بتوجيهات وقرارات سامية وبإنشاء هيئة عامة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة وصندوق الرفد وغيرها من الأجهزة المساندة لهذا القطاع وعقد العديد من الندوات والمؤتمرات وسن القوانين والتشريعات ومنح الإعفاءات وتقديم المنح والحملات الإعلامية للنهوض بقطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة. إلا أنه لا تزال النجاحات محدودة في مجالات مختلفة نذكر منها دورها في التشغيل وإيجاد فرص عمل للمواطنين وإنتاج السلع والخدمات لتلبية الطلب المحلي وزيادة الصادرات والقضاء على التجارة المستترة ومساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي ورفد الإيرادات العامة ودفع الضرائب ودورها في تغيير تركيبة الاقتصاد ودورة الأنشطة التجارية واجتذاب الاستثمار الأجنبي، الذي يستوجب وجود مؤسسات صغيرة ومتوسطة ترتبط به عمودياً في نفس القطاع بروابط أماميه وخلفية وأفقيًا مع قطاعات أخرى كممكنات ومصدر للمدخلات وتصريف المخرجات.
ويعود ذلك إلى ضعف منهجية دعم هذه الشركات، وعدم وجود معايير استراتيجية لتعظيم المنافع من أنشطة الدعم المقدمة، سواء النوعية أو المالية، الأمر الذي أدى إلى تواضع العائد على حجم الإنفاق الذي تم توجيهه لهذه الشركات.
ونشير هنا إلى ضرورة توجيه وتصميم الدعم لهذه الشركات بناء على معيارين رئيسيين هما إمكانية النمو، والأداء، حيث أشارت الأدبيات الاقتصادية إلى نوعين من هذه الشركات، الأول هو الشركات التي تكافح للبقاء، والثاني هو الشركات الواعدة. حيث تتصف شركات النوع الأول بمحدودية استخدام التقنيات المتطورة، ومحدودية الإدارة والتمويل والقدرات البشرية، وهي في الغالب تعتمد في عملها على عدد محدود من العملاء والموردين، وتتصف هذه الشركات أيضاً بمحدودية قدرتها على النمو والتطور، ومواجهة الأزمات والتقلبات الاقتصادية. الأمر الذي ينتج عملية مستمرة لهذه الشركات من الدخول إلى السوق والخروج منه. وتتميز هذه الشركات بكثرة عددها وكذلك قدرتها على توليد فرص العمل والدخل.
فيما تتصف شركات النوع الثاني بقدرتها على الابتكار والإبداع، وقدرتها على المنافسة واستخدام التقنيات المتطورة، وعادة ما يتوفر لها العديد من العملاء والموردين وشبكة علاقات جيدة مع الشركات الأخرى. وتشير الأدبيات إلى أن عدد تلك الشركات أقل من نظيرتها الأولى ولكنها قادرة على توليد فرص العمل الدائمة بشكل أفضل. ومن هذا المنطلق، يجب على القائمين على هذا القطاع، العمل على تصميم الحزم والتدخلات المُناسبة لهذين النوعين من الشركات، بحيث يكون الهدف الاستراتيجي هو انتقال الشركات من الفئة الأولى إلى الفئة الثانية. وضرورة التركيز على تنويع القطاعات التي تعمل فيها مع التركيز على قطاعات الصناعات التحويلية والإبداعية على حساب قطاعات الخدمات.
وعند استقراء الإحصاءات والدراسات والأبحاث المُتوفرة حول المؤسسات الناشئة والصغيرة والمتوسطة في السلطنة يتبين أنَّها شحيحة ولا توفر المعلومات المطلوبة من الباحثين وصناع ومتخذي القرار للتعرف على المشاكل الأكثر إلحاحاً لهذا القطاع للتعامل معها وإيجاد الحلول لها ويتبين أن هناك تحديا واضحا يُواجه المؤسسات الناشئة والصغيرة والمتوسطة، نتيجة لبعض العقبات الأساسية. ويشمل ذلك التعامل مع المشاكل الحقيقية التي تواجه جميع عوامل الإنتاج الأربعة المعروفة، وماهية الإدارة والإطار عام وثقافة مُمارسة الأعمال التجارية، وتعزيز القدرة الاستيعابية للاقتصاد.
ويرجع ذلك من وجهة نظري إلى غياب الإطار المُتكامل، والنظرة الشمولية لهذا القطاع، حيث المبادرات والسياسات المتجزئة هنا وهناك، لا تساعد على تطوير القطاع إلى مستواه المأمول. فالمنظومة التي يعمل بها (eco-system) يجب أن تراعي التشابكات بينه وبين القطاعات الأخرى وما يتناسب مع نسيج المجتمع والاقتصاد العُماني. وقد يعزى تواضع الأداء إلى العديد من الاعتبارات من بينها أننا دولة نفطية نعاني كغيرنا من الاتكالية وتفضيل العمل الحكومي لمزاياه وتواضع ثقافة ريادة الأعمال. وكذلك تركيبة القطاع الخاص المحلي المتسم بالنزعة الاحتكارية والاستيراد والعمالة الوافدة والدور الكبير نسبيًا للمجموعات العائلية في القطاع الخاص والتي تنتشر في جميع سلاسل التوريد والقطاعات فبعضها يمتلك أو يُساهم في بنوك وشركات تأمين وشركات تمويل ووكالات سفر وتأمين ووكالات سيارات وصيانتها ولوجستيات ومقاولات وغيرها وبالتالي وبالنتيجة فهو نسبياً لا يحتاج لتعامل مع المؤسسات الناشئة الصغيرة والمتوسطة وإن دعت الحاجة سيقوم بنفسه بإنشاء مؤسسات صغيرة ومتوسطة أو التعامل مع الأصدقاء من أصحاب المجموعات. وكما أشرنا يجب أيضًا النظر في أسباب أخرى ترتبط بعناصر الإنتاج الأربعة بدءًا من رأس المال وسهولة الحصول عليه بالشروط والتكلفة المُناسبة فهناك تحدٍ في تحديد معايير اختيار المؤسسات وقدرتها على خدمة الأهداف المُتوخاة منها ويستدل على ذلك بالنظر إلى النسبة الكبيرة للقروض المتعثرة لصندوق الرفد وحتى قبل جائحة كورونا.
وفي نفس السياق هناك تنصل واضح من قبل البنوك التجارية وشركات التمويل في القيام بدورها في هذا الشأن والذي يمكن رصده من خلال محدودية القروض المقدمة من البنوك وشركات التمويل والتي صدرت أوامر وتوجيهات من البنك المركزي العماني في عام 2011 بضرورة أن تصل إلى نسبة 5٪ بحد أدنى في عام 2014م، ونحن الآن في عام 2020 وتلك النسبة في حدود 3.5٪ وهذا أمر غير مقبول، ففي الأردن تبلغ هذه النسبة 13٪ من إجمالي المحفظة الإقراضية وفي المغرب 24٪ وتبلغ هذه النسبة 35٪ من إجمالي المحفظة الإقراضية في سنغافورة.
ومن جانب آخر الإدارة بمعناها الواسع وتوفير بيئة حاضنة لثقافة ريادة الأعمال والقدرة على الإبداع والابتكار والحصول على التكنولوجيا والموارد البشرية المُتميزة بتكلفة مُناسبة في خضم تنافس المؤسسات الكبيرة عليها وكذلك توفر المُمكنات الناعمة من قوانين وأنظمة وحواضن وغيرها، فحوكمة القطاع تُعاني من تعدد المرجعيات بين العديد من الجهات وارتفاع المصاريف التشغيلية للإدارة المعنية بهذا القطاع. وحتى تعريف المؤسسات الناشئة والصغيرة والمتوسطة يخضع لتجاذبات لإرضاء بعض الأطراف حيث لا يوجد حتى الآن تعريف للمؤسسات الناشئة وتم تغيير تعريف المؤسسات المشمولة كمؤسسات صغيرة ومتوسطة عدة مرات من تلك التي تبلغ أعمالها السنوية 1.5 مليون ريال عُماني إلى 3 ملايين ريال عماني ومؤخرا إلى تلك التي تبلغ أعمالها 5 ملايين ريال عماني سنويًا (أكثر من 400 ألف ريال عُماني شهريا) ولنكن واقعيين فهذا رقم كبير على وضع السوق العماني وشركاتنا الناشئة والصغيرة والمتوسطة ولكن قد يحمل هذا التعريف الفضفاض خدمة والتفافاً لأطراف أخرى كالبنوك التجارية وشركات التمويل لتمكينها من الوفاء بالالتزام والتوجيه الصادر منذ 2011 على أن تخصص 5٪ من محافظها الإقراضية لفئة المؤسسات الناشئة والصغيرة والمتوسطة، وقد يتيح التعريف الأخير الفرصة للشركات الكبيرة للاستفادة من النسبة 10٪ المخصصة من جميع المناقصات والمشتريات الحكومية لتلك الشركات التي في بداية طريقها وتحتاج الدعم والاهتمام لتنمو. وبالحديث مع بعض أصحاب الشركات الناشئة والصغيرة والمتوسطة يجمعون على نقص الدعم الفني المقدم لهم في أسس الإدارة والمحاسبة والتسويق والتعامل مع العملاء وغيرها من الجوانب الفنية التي تحتاجها هذه الشركات لتتقدم.
وختامًا، لا يخفى أن هذه المؤسسات مكون مهم في نسيج أي مجتمع واقتصاد وكثيرا ما تُشبه بالطفل الذي يحتاج إلى احتضان ومعاملة خاصة في كل مرحلة من مراحل نموه حتى يكون قادراً على التعامل بنفسه مع التحديات. إن دول العالم من حولنا وخاصة النفطية منها تعيش حالة استنفار وفرق العمل تعمل ليل نهار مستوعبة لحجم التحديات وتعمل على حلها. ومن المؤكد أن هناك أساسيات واضحة تتعلق بتنمية القطاع الخاص بشكل عام والمؤسسات الناشئة والصغيرة والمتوسطة بشكل خاص ولا شك أنَّ هناك الكثير الذي يُمكن عمله لتفعيل هذا القطاع الهام والذي من وجهة نظري من بين أهم مكونات خطة التنمية المستقبلية عُمان 2040 ومطالب كغيره بنفض الغبار عن مفاصله والانطلاق بخطى أسرع قادرة على المساهمة في علاج المشكلة الأكبر لتوفير فرص عمل لأبناء هذا الوطن والتي أصبحت مثل كرة الثلج في تضخم مستمر جراء تدفق أعدد كبيرة لسوق العمل من المتقاعدين أو الداخلين الجدد أو المسرحين إضافة إلى الموجودين أصلاً والجميع يُدرك التداعيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لذلك. الحلول موجودة وسنتناولها إن شاء الله في كتاباتنا القادمة.