د. مجدي العفيفي
(1)
إلى الذين لا يعملون ولا يسعدهم أن يعمل الآخرون، إلى الذين يضعف بداخلهم الشعور الوطني والقومي، وتبهت لديهم الغيرة على شرقنا العظيم، أو الشرق الفنان -على حد تعبير عنوان كتاب أستاذنا زكي نجيب محمود- إلى الذين لا يزال يجندهم الغرب من كتاب وإعلاميين ومثقفين، أو مدعي الكتابة والإعلام والثقافة، سواء أكانوا يعلمون أم لا يعلمون، ويدركون أم لا يدركون دلالات إستراتيجية إلهاء الشعوب، وفن وتقنية اغتصاب العقول، إنهم في غيهم يعمهون، ويستكثرون على حملة مشاعل التنوير في المنطقة العربية أن يكشفوا الزيف بمصدريته، وينزعوا أقنعة التضليل بمرجعيته، ولا يبالون أنهم هم السفهاء ولكن لا يشعرون أو يشعرون، كفانا في المنطقة ما لاقيناه وما نلاقيه وسنلاقيه من هذه الأفاعي، وقد صدق نزار قباني في قصائده السياسية المتوحشة ومنها ما قاله: "لم يدخل اليهود من حدودنا، وإنما تسربوا كالنمل من عيوبنا"، والمعنى غير مغلق على الصهاينة، بل على كل من تسول له نفسه أن يخترق حتى لو يحترق.
كثيرون هم المفكرون العرب الأحرار الذين يدحضون مئات الأمثلة من التصنيفات الوهمية والتوصيفات الخرافية التي وضعها المستشرقون المغرضون من قبيل: الشرق الأوسط، الشرق الأدنى والشرق الأقصى، وهؤلاء المستشرقون يتبعهم الغاوون من صغار المنطقة العربية في السياسة والثقافة والإعلام والآداب والفنون والاقتصاد والمجتمع عموما، ولن نعدم الأمل طالما هؤلاء يخلِّون بالتوازن المتخلف ويعصفون بالنظام الثابت للأشياء، وقد آن الأوان ليتغير، فالجمود شرك، وهذا هو المهاد الأول.
(2)
المهاد الثاني لهذه السلسلة، أقوله لهؤلاء الذين لا شغل لهم إلا التفتيش في ضمائر المفكرين الثائرين على معوقات التقدم، ولا وظيفة لهم إلا تشويه أضواء حملة مصابيح التنوير الذين ينسفون جبال ثقافة التخلف نسفا،. وما أثقلها من جبال، لكن أكثر الناس لا يعلمون. ومن ثم أقول لهم -في ضياء علوم النقد والسرد الحديثة- إن الكاتب الحقيقي هو الذي يكرر نفسه، إن لديه لحنًا واحدًا يعزف أنغامه بطرق مختلفة، كل كاتب مثل كل طائر مغرد له لحن واحد يميزه عن بقية الطيور الأخرى المغردة، فالكاتب صاحب الرؤية له رأى واحد، أو نظرية واحدة، أو صيغة فكرية واحدة، يحاول أن يلف حولها ويعرضها بأشكال مختلفة، مثلًا شاعر مثل شكسبير لديه خمس أو ست أفكار، وخمس شخصيات نمطية، يعرضها في مسرحياته في درجات حرارة في ظروف مختلفة، يعرض الحقد والخوف والسلطة والانتقام كل هذه المعاني، يلفها في جميع مسرحياته التي تركها، فالفنان الحقيقي هو الذي يكرر نفسه فعلًا، لكن الذي لا يكرر نفسه ليس فنانًا، فالفنان صاحب النغمة الواحدة أو صاحب اللحن الواحد، يتناوله من جوانب أو زوايا شتى وينادي بالفكرة الواحدة أو الصيغة الواحدة فيأتيها من زاوية فيكبرها ويصغرها ويكونها ويشخصها ليرى بوضوح.
وهذا الطرح تجادلت حوله مع أستاذي أنيس منصور، وهو ما يتوافق عليه أيضا مع صديقه الكاتب الإيطالي الشهير ألبرتو مورافيا، وسجلته في حوارية عندما زار القاهرة، في كتابي "آخر 200 يوم مع أنيس منصور"؛ إذ سألته في أيامه الأخيرة (وقد رحل في أكتوبر 2011): هل قلت كل ما تريده، عبر 88 عاما و200 كتاب؟ قال رحمه الله: "عندي إحساس دائم بأنني لم أقل بالضبط ما أريد، ولكنني أحاول ثم أكرر المحاولة وتتكرر المعاني، ولذلك أستخدم في التوضيح كأنما ولعل، أي كأن المعنى كذا وكذا، وأشعر بأنني لم أقل بما فيه الكفاية، فأعود وأنا أعود إلى الكثير من المعاني، فبعض فصول كتبي قد تحولت بعد ذلك إلى كتب، أي أنني أوجزت المعنى في صفحات قليلة ثم عدت إليها بمعلومات ورؤى أكثر وأعمق، بل لاحظت أيضا أنني لا أجد حرجًا في تكرار عناوين كتبي، وقد يبدو ذلك غريبًا عند القارئ، ولكن لا أجد ذلك إلا دليلًا واضًحا على أن المعاني لا تزال في مكانها من عقلي تحتاج إلى أن أعود إليها، فعندي إحساس بأنني سوف أعود مرة أخرى، وأنني لم أصل إلى النهاية أي طريق، وأنني دائمًا في مفترق الطرق، وكل خطوة هي عندي مفترق طريق، وأنني أخذت الاتجاه إلى الأمام، ولكن لا بد أن أعود وأختار المعنى الآخر، أنظر إلى الأمام، أو أنظر إلى الخلف، أقاوم الملل، أقاوم التدفق، أي التيار المندفع من داخلي، لا أعرف كيف أوقفه أو أتوقف".
(3)
المهاد الثالث، كمواطن عربي، شرقي، عالمي، إنساني، كوني، تؤزني قضية الشرق الأوسط أزَّا، منذ بداية تفتح أكمام القلم والسير على حد السيف في شارع الصحافة وممارسة الفكر الحر، والفكر أكاديمي بطبعه، مرورا بالتحولات والنقلات، والانكسارات والانتصارات، وما بين بين، فأنا ابن الشرق، وأفخر بذلك، بما له وهو كثير، وما عليه وهو قليل.
الشرق روح العالم التي يحاول الغرب إزهاقها بكل صفاقته المخبوءة في الأعماق المسكونة بالحقد الدفين، تحت مسمي مثير للاستهزاء الحضاري، ذلكم المسمى الكاذب البغيض هو (الاستعمار)، وسأتوقف عندها، بعد قليل، في مهاد هذه السلسلة المستمرة من المقالات التي تنهل من نور الشرق وناره، نوره الذي غمر الغرب والغرب الأوروبي تحديدا أيام كان يغرق في ظلامه وإظلامه قرونا طويلة، ولا يزال حتى وإن ادعى الآن أنه تحضر، ولا يزال يغوص في وحل مستنقعاته، بشكل أو بآخر، فمخطئ من ظن يوما أن للثعلب دينا، طبقا للمقولة الشعرية لأمير الشعراء أحمد شوقي!
(4)
المهاد الثالث، كثيرة هي الأطروحات التي قدمتها طوال الفترة القريبة الماضية، وتحديدا بعد محاولة تدمير جزء فعال وخلاق من الكيان العربي الصلد، وأقصد العراق ومسرحية بوش الإبن الأمريكي، ومهرجان 11 سبتمير الكوميدي، والتأليف والإخراج له أمريكي ومعه الغرب الأوروبي الذي تحول في معظمه إلى قطيع في الذيل الأمريكي،وكذلك عبر مواكبتي المهنية لما يسمى بـ"مشروع التقسيم" تقسيم منطقة الشرق الأوسط الذي بدأ الإعداد له منذ العام 1990 وأعلنت عنه مجلة اتلانتك الأمريكية بعد ذلك في عددها الصادر فبراير 2008 ثم التعبير الذي يعتبر أغبي تعبير سياسي ظهر في التاريخ "الفوضى الخلاقة"، التي أطلقته حمالة الحطب وزيرة الخارجية الأمريكية "كونداليزا رايس" كما وصفتها في مقالاتي، وقد رحلت غير مأسوف عليها وعلى من يتمثلها الآن.
مادة ثمينة وسمينة وثرية تشكلت لدىَّ عن الشرق الأوسط، ما نشر منها، وهو كثير، وما ينتظر وهو أكثر، في كل الصحف والمجلات والدوريات التي كتبت فيها ورقية وإلكترونية، في مصر وعُمان والكويت ولندن ودبي وواشنطون، وفي مؤلفاتي التي تربو على الخمسة عشر كتابا، كانت ثمة أصداء للقضية الأم التي تشغلني وتملأ كياني الذاتي والموضوعي، وهذ القضية المعضلة هي محور فصل كامل في كتابي القادم «في عين الشمس» الذي تأخر بسبب «مسرحية كورونا العالمية» (!!!) ويرتكز على أطروحات من قبيل: الشر«،.» الأوسط وحكومة العالم الخفية، «ولن يلتقيا،» قالوها قبل 100 عام، ولا يزالون! (الشر،. الأوسط) والذين يرفعون شعار: لا إله إلا الدولار (!!) رسالة من العالم الآخر إلى حكام الشرق الأوسط، وشهد شاهد من قلب أهلها، موت الغرب ويقظة الشرق، الشرق الأوسط واللاعبون بالبيضة والحجر، و«الشرق الأوسط» أم «الشر،. الأوسط»؟! وغيرها، مما تجادلت به عبر المواقع الصحفية التي شغلتها وأكثرها وأعزها وأكثرها توهجا كان في عُمان الغالية على النفس والفكر والقلب والوجدان، التي أتيت إليها وأنا في ربيع العمر وغادرتها وأنا في خريف العمر، رغم أن البعد يعد جغرافيا فقط، فالروح تحلق والقلب يخفق.
(5)
المهاد الرابع، كل يوم هناك جديد في هذه البقعة المباركة من الشجرة الشرق أوسطية، رغم التلوث الذي يحدثه الحاقدون على الشرق وجمالياته وروحانياته، والطامعون في ثرواته البشرية قبل الطبيعية، والناهبون لخيراته وخبراته، واللصوص الذين لا يزالون يسرقون تاريخه وسيرورته، ويسطون على آثاره ومآثره، ويشوهون كينونته وصيروته، ولكن هيهات!
ستظل منطقة الشرق الأوسط نقطة جذب، والجاذبية فيها -بغض النظر عن الإيجابية من السلبية- هي من أقوى جمالياتها وتجلياتها وتداعياتها، وقلت وأقول وسأظل ما حييت، طالما أن القلم يتنفس بشكل طبيعي، فالتكرار يفيد، من لا يريدون الاستيعاب، لعلهم يفقهون.
وقد أشرت أكثر من مرة إلى أن لصوص الغرب من حكام ومحكومين، ومثقفين ومفكرين وفنانين وفنيين، أخفوا الشرق وطلسموه، واتهموه عبر القرون الأخيرة بالتخلف والرجعية، واللامرجعية، وفي نفس الوقت نهبوا ثرواته وأخمدوا ثوراته، وقطعوا حواراته، وشوهوا حضاراته، وشوشوا على تجلياته أو خُيِّل إليهم ذلك. راحوا يلهثون في مضمار التاريخ وساحة الجغرافية وكادت أنفاسهم تتقطع ولا تتقاطع، وراح الغرب يراجع نفسه، وأوهم العالم بلعبة (حوار الحضارات) و(حوار الأديان- وهذه أكبر أكذوبة، إذ ثمة دين واحد لا أديان) و(حوار الثقافات) وغير ذلك من الألاعيب البهلوانية؛ اذ كيف تتحاور حضارة عريقة مثل الحضارة الفرعونية والهندية والصينية والعربية والإسلامية مع حضارة الهامبرجر، وثقافة الساندويتش وعقيدة الذين يرفعون شعار (لا إله إلا الدولار)!! و«الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا» هكذا قال المفكر البريطاني «كبلنج» في اوائل القرن الماضي! نعم، لن يلتقيا يا كبلنج، وشواهد التاريخ ماثلة ومشاهده المؤلمة تبرهن على ذلك، عفوا هذه الإشكالية التي طرحت في بداية القرن الماضي لا تزال مطروحة، ويبدو أنها ستظل، فالأسباب قائمة والمسببات قاتمة، لا تزال!
(6)
المهاد الخامس، في الكلمة الأخيرة في الفقرة السابقة «الأسباب قائمة والمسببات قاتمة، لا تزال!» تحمل جينات هذه الأطروحة المستعرة والمستمرة لماذا الآن؟ صحيح أن الكتابة عن الشرق هي مناسبة في حد ذاتها، لكن لننظر حولنا، ما من دولة في هذه المنطقة من العالم إلا وبها جرح عميق، مباشر وغير مباشر، جراح لا تريد أن تلتئم، وأنَّى لها ذلك والحروب الدامية الكوميدية منها والتراجيدية تتخذ أشكالا وصورا غير مسبوقة.
نرى ليبيا وما يحدث فيها وتكالب الدول الغربية وبعض «العربية» عليها، والشظايا التي يطيرها الغرب الأوروبي والأمريكي بينها وبين جيرانها، والجزائر وهي تطلب التعويض من فرنسا المحتلة التي تتقنع وراء أكذوبة الحرية والمساواة والنور، وهو نور أسود، وتونس أيضا التي تحاول أن تفيق من جرائم فرنسا المحتلة، والسودان وكثرة الأنوف الغربية فيها، واليمن وما أدراك ما يحدث من دمار وتدمير يومي في أصل العرب والشرق والعروبة، ومنطقة الخليج وما تتعرض له من دسائس وفتن ما ظهر منها وما بطن، وما خفي أعظم، والعراق، ولبنان، و....، و.....، للأسف العنيف إن بقاع الشرق الأوسط بعضها ملتهب، وبعضها مشتعل، وبعضها قابل للاشتعال، والبعض ينتظر عود ثقاب لينفجر، والكيان الصهيوني، بطبيعة الحال، يتحرك ليس في الظلام بل «في عز الظهر» ويحرك قطعه الشطرنجية على الرقع التي يتنمر للانقضاض عليها «عيني عينك»!
وإلى الملتقى....،