جابر حسين العماني
عِندما جاء الإسلام الحنيف إلى المجتمع الجاهلي كانت الحياة متخلفة تماما، لا توجد فيها أهداف واضحة يسعى الإنسان من أجل تحقيقها؛ فهي لا تحمل أي قضية أو هدفا معينا، بل ولم تكن هناك قيم إنسانية وأخلاقية، أو أي مبادئ يحافظ عليها الإنسان من أجل رقيه وازدهاره اجتماعيا، كان المجتمع عبثيا لأبعد الحدود؛ حيث كان الناس لا يعرفون سوى التمتع بشهواتهم وأهوائهم المضلة، قال تعالى: "وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ" (الأنعام:29)، فكان همهم الأول هو اللعب واللهو والفساد والإفساد.
جاء الإسلام المحمدي الأصيل حاملا رُؤية التنوير والإصلاح لتصحيح الكثير من العادات والتقاليد السيئة التي كان يؤمن بها أهل الجاهلية، جاء ليعطي الحياة اهتماما بالغا وقيمة عالية ليخلق لحياة الإنسان أهدافا واضحة لها قيمتها ومعناها في الداخل الاجتماعي؛ وذلك من خلال تهيئة الإنسان وتنشئته نشأة فكرية سليمة، بعيدة عن العبثية واللامبالاة التي كان يعيشها أهل الجاهلية الأولى، قال تعالى: "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ" (المؤمنون:115)؛ لذا ركَّز الإسلام على بناء الإنسان بناء قويًّا ليستطيع تحمل المسؤولية العظيمة، والدور الكبير الملقى على عاتقه في سبيل نجاحه ونجاح مجتمعه، قال تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات:56). أي يعبدون الله ويذكرونه فكانت هنا بداية التنوير الحقيقية للقضية الإنسانية.
جاء الإسلام الحنيف محدثا ثورة عظيمة، مذكرا فيها بالقيم الإنسانية والأخلاقية التي لابد أن تسود الحياة الاجتماعية، محذرا من سفك الدماء وأكل أموال الناس بغير حق، فكان من إحدى خطب النبي الأعظم -صلى الله عليه وآله وسلم- التي أراد من خلالها إخراج الناس من ظلمات الجهل إلى نور العلم والفهم، واضعا بذلك النقاط على الحروف، مهتما ببناء الإنسان وإبعاده عن الرذائل والموبقات الجاهلية التي كانت تمارسها الناس فقال في خطبة الوداع:
"أيها الناس! إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى، أيها الناس! إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لامرئ مال لأخيه إلا عن طيب نفس منه، أيها الناس إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربك".
جاء الإسلام بكل قوته ليقول إن الكون بما فيه من خيرات وبركات سخره الله تعالى لخدمة الإنسان بهدف نجاحه وتقدمه وازدهاره بين الأمم؛ لذلك استطاع المسلمون عبر العصور أن يصنعوا لأنفسهم حضارة راقية بين الأمم، فأصبحوا خير أمة أخرجت للناس.
وإذا بها -مع كل الأسف- تتراجع إلى الوراء بشكل ملحوظ، فأصبحت تمارس الانحدار والانحطاط والجهل والتجهيل، وذلك بسبب ابتعادها عن روح الإسلام وتعاليمه، فأصبحت لا أهداف لها فيسعى الإنسان لتحقيقها، ولا قيم إنسانية فيحافظ عليها، فتقدمت عليها الأمم الأخرى، فأصبح النجاح والازدهار في حوزة تلك الأمم، وأصبح وأمسى المسلمون اليوم يعيشون الكثير من التخلف والانحطاط، فهل فعلا عاد المسلمون إلى الجاهلية الأولى أم هم يمارسون جاهلية حديثة؟
عندما لا يفكر المسلمون بنجاحهم وازدهارهم وتقدمهم فهم -حتما- سيعيشون حياة الجاهلية، وكلما عاش المسلمون حياة التقدم والازدهار فهم -حتما- سيخلقون لأنفسهم مستوى متقدما بين الأمم، ومن أجل الوصول إلى ذلك المستوى من التقدم والازدهار والنجاح لابد من أن يعيش الإنسان حياة مفعمة بالطموح والإنجاز، فبدونهما لن يتمكن من الوصول إلى التقدم والازدهار، ولكي يحقق الإنسان المسلم طموحاته وأهدافه المنشودة، فلابد من رسم خطط مستقبلية هادفة يسعى لتحقيقها على الدوام، ليتمكن من الخروج من ظلمات الجهل إلى نور العلم والفهم.
لا شك أنَّ الناجحين والمتفوقين الذين أبدعوا في تخصصاتهم الاجتماعية، ووصلوا إلى مراحل متقدمة في عالم الحياة، كانت لهم طموحات مدروسة منذ الصغر، سعوا من أجل تحقيقها مجتهدين، هؤلاء لم يعيشوا حياة الجاهلية المليئة بالكسل والإحباط والتشاؤم وخيبة الأمل والتردد والشك، بل تفاءلوا بالخير دائما، وسعوا لتحقيقه بإخلاص ووفاء وتفان.
إنَّ الحياة الأسرية والاجتماعية التي يواكبها الإنسان لا تستقيم أبدا إلا بالأمل والطموح، ولابد أن يحتوي المجتمع الناجح على أفراد ناجحين مخلصين فيما يقدمونه ويخططون من أجله بهدف الوصول إلى حياة اجتماعية أفضل وأجمل وأكمل، بل وجعلوا لأنفسهم طموحات عظيمة لا حدود لها من أجل بناء أنفسهم ومجتمعاتهم وأوطانهم.
إنَّ القضاء على الجاهلية الأولى أو ما يُسمى الجاهلية الحديثة -التي يمارسها البعض- لابد من إزالتها من خلال إنهاء تأثير الجهل الفكري بين أفراد المجتمع، والاستفادة من التجارب العلمية والفكرية الواعية التي من شأنها أن تنقل المجتمع بأسره من ظلمات الجهل إلى نور العلم والفهم؛ حيث يكون الإنسان مساهما حقيقيا في محاربة الجهل بأنواعه وأشكاله ومسمياته التي شوهت الفكر العربي والإسلامي، وجعلت منه فكرا رخيصا بين الأمم، قال الإمام عليّ بن أبي طالب: العِلم أصل كل خَير، والجَهلُ أصلُ كُلِّ شَرٍّ، وقال:
ما الفضلُ إِلا لأهلِ العلمِ إِنهمُ...
على الهُدى لمن استهدى أدلاءُ
وقيمةُ المرءِ ما قد كان يحسِنُهُ...
والجاهِلونَ لأهل العلمِ أعداءُ
فقمْ بعلمٍ ولا تطلبْ به بدلاً...
فالناسُ مَوْتى وأهلُ العلمِ أحياءُ
إنَّ الأمة الإسلامية لن تتمكن من إزالة الجاهلية الحديثة إلا بمعرفة العلم حق معرفته، وممارسته في كل جوانب الحياة المختلفة، بل ولا يمكنها أن تكون في الصدارة، أو أن تقود غيرها، أو أن تقضي على الفقر والتخلف والأمراض الاجتماعية المختلفة، أو حتى تنهي تفرقها وتمزقها المذموم إلا بالتوجه الصادق والجاد نحو العلم والأخلاق التي أراد الإسلام ترسيخهما في الحياة الاجتماعية والأسرية والاستفادة منهما، فهما الأساس لوحدة الأمة ورقيها وازدهارها وفلاحها بين الأمم.