الحالة الليبية ليست استثناءً

 

عبيدلي العبيدلي

من جديد صعدت أخبار الأوضاع في ليبيا، ونتائج التحولات في موازين القوى فيها على سطح الوسائل الإعلامية، واحتلت صدارة الأخبار المُتناقلة عن البلاد العربية.

ومنذ الإطاحة بنظام الرئيس مُعمر القذافي، لم تتوقف الصدامات المسلحة فوق الأراضي الليبية. تتراجع حدتها أحيانًا، وتسكت أصوات مدافعها أحياناً أخرى، لكنها لا تلبث أن تعود، ويتكرر المشهد الذي تتوسطه صدامات المليشيات المسلحة، كبر حجم تلك المليشيات أم صغر، ارتدت البزة العسكرية الرسمية، أم تخفت تحت عباءات أجنبية.

الثوابت في المشهد الليبي تتوزع على ثلاثة محاور مفصلية وأساسية، المحور الأول منها ذو بعد اجتماعي، وهو الأهم بينها، حيث ما يزال شرخ الانقسام القبلي/ المناطقي آخذا في الاتساع وبسرعة لا متناهية، ويحل مكان الانتماء الوطني. تختلف تلاوينه، وتتغير سحناته، لكنه لا يستطيع أن يتخلى عن بشاعة صورته، فهو أحد أهم عوامل إذكاء تلك الصدامات المسلحة. ولا تستطيع أيٌّ من القوى الضالعة في الصراع أن تتنصل، بزيادة أو نقصان، من مسؤوليتها المباشرة أو غير المباشرة في إذكائه، والاستفادة منه في تكبير حيز المساحة التي تحتلها في خارطة موازين القوى المتصارعة، كي تضاعف من حصتها عند توزيع مغانم الحرب الدائرة.

ولا تقف حدود التباهي القبلي/ المناطقي عند تخوم الادعاء والتفاخر اللفظي، بل تذهب إلى ما هو أسوأ من ذلك بكثير، فنجدها تصر على الوصول إلى مستوى المطالبة بإعادة تقسيم ليبيا إلى مناطق نفوذ تسيطر على كل منها هذه القبيلة أو تلك، أو "وجهات" تلك المناطق أو تلك أيضًا، بما يشمل، على حد سواء تقاسم الثروات الطبيعية وفقاً لمعادلة التوزيع تلك، كي يجني شيوخ القبائل ووجهاء المناطق نتائج مثل هذا التأجيج القبلي/ المناطقي.

الثاني من تلك الثوابت يأخذ بعدا سياسيا، ويحفر خنادقه القوتان المتصارعتان، حكومة الوفاق من جانب، وجيش حفتر من جانب آخر. وليس هنا مجال تقويم أي منهما، حيث لا يختلف سلوك أي منهما السياسي عن الآخر. جوهر الأمر هنا هو صراع على النفوذ، أكثر منه اختلاف على مشاريع إعادة إعمار ليبيا بعد انتشالها من أزمتها الراهنة.

مصدر تفاقم الأزمة السياسية، استعانة كل طرف منهما، بقوة أجنبية تمتد من موسكو شرقاً كي تحط رحالها في واشنطن غربًا. وبين هاتين العاصمتين، هناك قوس قزح دولي تحتل ألوانه مجموعة أخرى من العواصم، تتصدرها أنقرة وموسكو.

ولكل من هذه القوى الدولية المتصارعة مصالحها الخاصة، يجمعها هدف مُشترك، غير مقدس، وموضوعي، وغير معلن هو اتفاق على العمل من أجل استمرار الصراعات فوق الساحة الليبية، بما يضمن تدفق السلاح، وزيادة نفوذ التدخل الأجنبي. ويتناسب هذا النفوذ طردياً مع زيادة تدفق السلاح، مما يضخم موازنة السلاح المستورد من تلك العواصم، ويضمن ارتفاع الفواتير التي تدفعها الأطراف الليبية كي تستمر آلة صناعة السلاح في بلدان تلك العواصم.

وعلى نحو موازٍ، هناك مشروع سياسي مُبطن يحول دون عودة ليبيا، في بحثها عن حل لأزمتها إلى أي حضن من أحضان أي من شقيقاتها من البلدان العربية، التي، هي الأخرى مطلوب منها أن تمرغ نفسها في أوحال مستنقع الأزمة الليبية إن جاز لنا القول.

ويطل العامل الثالث برأسه من نافذة جرح النزيف الاقتصادي، فالمطلوب اليوم، أن تستمر الساحة الليبية على حالتها الهلامية دون حسم عسكري نهائي، يمكن أن يؤدي إلى حل سياسي. فطالما استمرت المعارك، لا يعود هناك مجال أمام حل سياسي، يقضي على الفوضى العارمة، ويفتح الطريق أمام حل سياسي، يُعيد الأمن والاستقرار، ويمهد السبيل أمام الوصول إلى نهاية "طريق الآلام".

ما يحز في النفس، ويبعث على التشاؤم أن هذه الحالة الليبية ليست استثناءً على الإطلاق عند الحديث عن الأوضاع في المنطقة العربية. ليست هناك حاجة للغوص عميقاً في سنوات القرن الماضي، والعودة إلى مرحلة الحرب الباردة التي اندلعت في أعقاب انتهاء الحرب الكونية الثانية.

تكفينا لإثبات القول إن ليبيا ليست استثناء زيارة الحالة العراقية إثر الغزو الأمريكي/ الإيراني للعاصمة بغداد، وما تلاها من أحداث. يكفي استبدال تركيا ووضع إيران مكانها، وإزاحة روسيا كي تحتل الولايات المتحدة مقعدها، كي نكتشف تشابه الحالتين، ومن ثم التنبؤ بالمستقبل المتربص لما سوف تؤول له الأمور في ليبيا.

لقد نجح الاتفاق الموضوع القائم على تقاطع المصالح بين واشنطن وطهران، إلى "إيصال" العراق إلى الحالة المزرية التي هو عليها اليوم، ويمكن تلخيصها في كون العراق قد وصل إلى مجتمع تعبث بمكوناته الاجتماعية "جائحة" الطائفية، وهي أشد من "جائحة" الكورونا،  من حيث التأثير السلبي على مكونات المجتمع الذي تجتاحه، وجيش مهلهل، هو الآخر منقسم طائفياً، وغير قادر على التحول إلى جيش وطني، بالمعنى المتعارف عليه لمفهوم الجيوش الوطنية، واقتصاد متردٍ لا يستطيع النهوض من كبوته، ولا يملك القدرة على الفكاك من فكَّي النهب الإيراني والتدمير الأمريكي المتبادلين باتفاق ضمني ناجح ومتكامل، لم تعرفه مدارس التحالفات السياسية من قبل.

وإذا غادرنا طرابلس الغرب، وبغداد الشرق، وتوجهنا نحو دمشق أو بيروت، فلن تكون صورة أي منهما أفضل من صورة شقيقتهما. فكلتاهما يئنان من كوارث لا تختلف في جوهرها، وإن تباينت في تفاصيلها الشكلية.

فما عرفته، وما تزال تعاني منه لبنان، يُؤكد أنَّ الصورة تتكرر، بنكهتها المحلية في أكثر من بلد عربي. تختلف التفاصيل، وتتعدد الألوان الخارجية، لكن أياً منها لا يغير من الأطماع الخارجية، ولا يعدل من معاناة الأوضاع المحلية.

ليس هنا القصد "البكاء على اللبن المسكوب"، ولا الدخول في حالة مأساوية "كربلائية"، بقدر ما هو محاولة القول، وبشيء من المرارة، أن الحالة الليبية ليست استثناء، ومن ثمَّ التحذير من احتمال انتشار أوبئتها الجائحة في سماء عواصم عربية أخرى. والمطلوب الاستفادة من الدرس الليبي، ومن قبله الدرس العراقي، وسبقهما الدرسان اللبناني والسوري، كي لا نجد أنفسنا أمام تفشي وباء غير قابل للانتشار  في غير سماوات البلدان العربية، في وقت نحن في أمس الحاجة إلى قرار عربي مُشترك، تعززه قرارات وطنية تصدر عن بلدان عربية مُعافاة ولا تعاني من أسقام كالتي تفتك بها اليوم، وعلى مشهد منِّا.