محطات رحلة القطار

حميد بن مسلم السعيدي

يرتبط القطار بالسفر والترحال من مكان إلى آخر، وغالباً ما تكون القطارات عابرة من محطة إلى أخرى، يركب هذا ويترجَّل الآخر لوصول مقصد رحلته ونهايتها؛ فالقطار لا يتوقف، وإنما يظل عابراً للمحطات، ما بينها هناك مسافة فاصلة للزمن يجد الفرد نفسه وحيداً وربما دون رفيق، إلا أنَّ القطار لا يشعره ذلك ولا يهمه ماذا وأين يذهب الركاب وإلى أي محطة سوف ينزلون؟ وربما يتوقَّف القطار لوهلة من الزمن في انتظار الرُّكاب الجدد، إلا أنَّ تلك الوهلة تكون قصيرة جدًّا، وأحيانا لا يتيح المجال لتوديع الراحلين عن أحبابهم؛ لذا تنقضي تلك اللحظة فقط عندما تكون العيون التي تودع الراحلين في صمت، وأحياناً يرحل البعض دون وجود من يُودِّعه فلا ينظر إلا لتلك الثواني التي تمر سريعاً في انتظار اقتراب القطار من المحطة، تتحرَّك العجلات وهي تمضي بعد أن بدأ صفير الرحيل ليجّد كل فرد في ذلك القطار نفسه وحيداً في مسار دون التراجع، وإنما الاستمرار في مرحلة قد لا تعرف إلى أين تكون نهايتها؟

رحلة الإنسان في الحياة كمحطة من محطات القطار، يعيش زمنه الذي ينقضي يوما بعد آخر، ويمر يومه ليشعر أنَّ زمن من عمره قد رحل دون عوده، فتنقضي أجمل اللحظات سعادة في حياته، وربما ترحل أشد الأيام قسوة وألماً، فالحياة متناقضة في توجهاتها ولا يدرك الفرد بل لا يستطيع أن يتحكم في مصيره، أو يحدد مسار رحلته، فكل ذلك لم يُتح للإنسان أن التحكم فيه، إلا أنَّ له الأخذ بالأسباب فينتقل من محطة لأخرى، لعل ذلك يدفعه نحو التغيير في مسار حياته ورحلته، فيظل هائماً بين المحطات، وربما مدركاً لبعضها، قادراً على التفكير والتأمل فيها، فينظر لما يريد أن يصل إليه، إلا أن ذلك قد يقوده للتأخر عن رحلته فيأتي وقد رحل القطار.

التأخُّر عن الرحلة له الثمن الذي قد يضطر المسافر لدفعه على مضاضة من ذاته، فيصبح الوقت طويلاً ويبدأ الفرد في التفكير بالزمن الذي يحتاج إليها القطار للعودة من جديد إلى هذه المحطة، والانتظار قد يأخذ وقتاً لم يكن هذا المسافر قد وضعه ضمن مخطط رحلته، وربما يجد نفسه مذنباً أو يوجه اللوم لذاته؛ لأنه تأخر عن وقت انطلاق القطار، حينها يصبح الفرد أمام تحمُّل تبعات القرار الذي اتخذه منذ أن فكر في الرحيل، فاستغلال الوقت وتحديد الخطة والنتائج هي من الأساسيات التي يفكر فيها المسافر، ولكن البعض لا يضع ذلك في فكره ويعتقد أن الآخرين سوف ينتظرونه لأنه تأخر عن الموعد، هي نرجسية الذات وطغيان الفكر الذاتي وفقدان النظرة المجتمعية، فيعتقد أو يؤهم نفسه أن هذا الكون ملك له دون غيره، فيأخذ من وقت هذا، ومن حقوق ذاك، وربما يعبث بالزمن من أجل أن يتحكم في وقت وصول القطار بما يتناسب مع ظروفه، حينها تطغى عليه النظرة العلوية ويرى الآخرين من أضيق النوافذ وأحيانا يراهم من دماء غير الدم الذي يمر في شرايين جسده، فيعيش في وهم الغرور والرغبة في السلطة والتكبر، وينسى أن موعد رحلته قد حان، وأن القطار في وقت الانتظار.

مسارات رحالات القطار مختلفة الاتجاهات لا يدرك الراكب إلى أين تتجه، ولكنه يعرف أن قرار تحديد مسار الرحلة لا قدرة له على تغييره، فعندما ينطلق القطار يجد عدة مسارات وبعضها من الأوهام وبعضها من الواقع، فيجد القطار أمام اختيار المصير وأين يريد لركاب هذا الرحلة أن يصلوا في نهايتها، فالقطار لا يرغب في التوقف ولا يريد أن يفقد بعض ركابه، فما يسمعه من همس وصراخ وألم وفرح وسعادة في تلك الرحلة، يشعره أنَّه يمتلك روحاً وربما ذلك يجعله يتحمل من آلة إلى روح تستطيع أن تشعُر بمشاعر الآخرين.

لكن البعض لا يشعر بذلك بل لا يهمه من يرحل وكيف رحل، سواء كلمة تكتب في بيان الرحلة نأسف على رحيل أحدهم. فعندما كان يصعد القطار عبر مسارات الجبال الشاهقة والتي كان يتوقع أن تكون سنداً له في رحلته، إلا أنها كانت ألطف وأكثر هَوناً مما يُتوقع؛ مما أفقده الثقة في التربة التي وُلِد عليها، والتي أراد منها أن تحميه من الصِّراعات وبطش الزمن عليه، إلا أنها كانت عاجزةً هشَّة ضعيفة لم تستطع إلا أن تتأسَّف بلا معنى؛ سواء أنها ضَعُفت أكثر مما يريده الآخرون منها أن تكون ندًّا وخصمًا في المواجهة؛ لذا تعبر تلك الكلمات وتبقى للتأسف دون معنى من محطة إلى أخرى يقطعها القطار، إلا أنَّ بعض الكلمات تبقى تعبُر الزمن من حقبة إلى أخرى لأنها تمثل عجز الإنسان وخنوعه لويلات الزمن، ومنها ما قاله أحد الشعراء:

"لا تأسفنَّ على غـدرِ الزمانِ لطالما...

رقصت على جثثِ الأسـودِ كلاب

لا تحسبن برقصها تعلو على أسيادها...

تبقى الأسودُ أسوداً والكلابُ كِلابا".