"كورونا".. أزمة متفردة (1 – 3)

عبيدلي العبيدلي

 

رغم كل ما يبذله إنسان اليوم من جهود من أجل تطويق جائحة الكورونا، أو الأزمة التي ولدتها، لكن نسبة عالية من تلك الجهود انشدت نحو متابعة أخبارها، والتدقيق في أرقام إصابات ضحاياه، وعدد المتشافين، وأعداد من كانوا في تعداد الضحايا. ثم تطور الأمر بعد ذلك فبات ذلك الإنسان نفسه يستمتع بملاحقة الصراعات، وتبادل التهم - التي نجمت عن تلك الأزمة – والتي راحت تتناقلها، بتفاصيل مُلفتة، وتروجها مؤسسات الإعلام المختلفة، بين رؤساء الدول، أو حتى بين المسؤولين في هذه الدولة أو تلك.

في خضم تلك الزوبعة، إن جاز لنا القول، التي ما تزال تداعياتها تتفاقم، رغم الجهود المبذولة لتطويقها. لكنها تواصل "عربدتها" في قهر تلك المحاولات، حاصدة المزيد من الأرواح، وتاركة وراءها المزيد من الخسائر التي تحمل في أحشائها كوارث، ربما من الصعب، تحديد مساحات الدوائر التي سوف ترسمها، بشكل مباشر أو غير مباشر. رغم كل ذلك يمكن القول إن هذه الكارثة أو الأزمة، أو حتى الجائحة، تعد الأقسى على الإنسان، منذ الكساد الكبير الذي ألم به في نهاية العقد الثالث من القرن العشرين، وأدى فيما أدى إليه إلى اندلاع الحرب الكونية الثانية التي اندلعت في العام 1939، ولم تضع أوزارها قبل العام 1945. وترسخ ذلك الكساد في ذاكرة الإنسان التاريخية التي باتت تستدعيه عند كل كارثة تلم بها.

ولربما عمق التداعيات التي أفرزتها أزمة الكورونا هي التي قادت إلى تعدد الصفات والنعوت التي أطلقها الإنسان عن انتشار فيروس "كوفيد – 19". البعض اعتبرها أزمة، وآخرون رأوا فيها مواصفات "جائحة"، في حين ذهب البعض إلى وضعها في خانة "الكارثة". لكن الأزمة هي التعبير الأكثر التصاقًا بها، خلال الفترة التي مرت عليها منذ اكتشافها حتى يومنا هذا. وجعل ذلك الفيروس المتناهي في الصغر العالم يقف شبه مشلول غير قادر على الوصول إلى ما يمكنه أن يحد من سرعة انتشاره، ويقلص من دائرة الخسائر التي ولدها، وعلى أكثر من صعيد، ليس الاقتصادي سوى الأبرز بينها.

من القضايا التي أثارتها "أزمة" الكورونا، هي دفع البعض منا نحو التفكير في مفهوم الأزمة، وما هو جذر هذه الكلمة، وما الطريق الذي سلكته كي تصل إلى قاموس العالم، ويجري تداولها؟

ينجح الباحث عبد الرزاق بلعباس بمحاولة إحاطة شاملة لتعبير الأزمة في دراسة مطولة له حملت عنوان "ما معنى الأزمة"، تناولت المصطلح من منطلق شمولي، تطرق إلى مختلف جوانبه التاريخية منها، والنطاق المعرفي الذي تغطيه.

وربما يُفاجأ البعض منِّا، والكاتب من بين هؤلاء الذين "ألم" بهم العجب أن العودة إلى جذور الكلمة التاريخية سيضعنا أمام معنى يبدو غريباً أمام مفهومنا له، كما يقول موقع "الموسوعة السياسية الإلكتروني"، أنها وردت في "اللغة الصينية جامعة بين معنيين اشتملت عليهما كلمة wit-ji فكلمة (wit) تعنى الخطر، وكلمة (ji) تعنى الفرصة التي يمكن أن نستثمرها لدرء الخطر".

وهذا يعني أن للأزمة بخلاف الفكرة التي يحملها الكثيرون منِّا، الذي يحصره في النطاق السلبي، وجهان الأول منهما سلبي بمعنى "الخطر"، والآخر إيجابي يحمل في طياته فرصة درء ذلك الخطر.

ويعطي البعض هذا التعريف بعدا لغويًا يميزه عن استحداث التعبير في اللغة الصينية. ففي اللغة الإغريقية تولد المفهوم من الممارسة، العملية، إذ إن "أول ما ورد مصطلح الأزمة كان في علم الطب الإغريقي، حيث كانت تُعبر أو تدل على اللحظات المصيرية من تطور المرض، وبالتالي يتوقف عليها شفاء المريض أو موته".

ولربما يكشف الاختلاف في تفسير المفهومين بعدا حضاريا يميز الإغريق عن الصينيين. فبينما يرى في الصينيون أن الأزمة، على الرغم مما "ما تحمله من أخطار ومصائب تعد فرصة لكي نطلق القدرات الإبداعية التي من الممكن أن نستثمرها لنعيد صياغة الظروف ونوجد حلولا جيدة"، نجد الإغريق يربطون بينها وبين المرض، ويضعون احتمالين للنهايات التي يمكن أن تؤول لها.

ورغم إجماع المصادر على ارتباط اندلاع الأزمة بعنصر المباغتة، لكن البعض يضفي عليها تصنيفاً آخر، حيث يعتبر البعض منها ما تقع مسؤوليته على الطبيعة مثل العواصف والفيضانات، في حين يحمل الإنسان نفسه بعضها الآخر مثل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. واقتصر البعض على تصنيف أشد بساطة، حيث وضع الأزمات في خانتين الأولى منهما تلك المتكررة، أو الدورية، والأخرى غير الدورية.

ويذهب البعض الآخر إلى ما هو أبعد من ذلك، حين يعطيها عمرا محددا يمر في دورات لكل منها مواصفاته الخاصة به. تبدأ بـ "مرحلة الميلاد"، قبل أن تتطور كي تصل إلى "مرحلة النمو والاتساع"، قبل أن ترقى إلى "مرحلة النضج"، كي تعود بعدها إلى "مرحلة الانحسار والتقلص"، قبل تحط رحالها في نهاية الأمر عند "مرحلة الاختفاء" والتلاشي.

وكأي ظاهرة طبيعية أخرى، أو حتى إنسانية من صنع الإنسان نفسه، كانت ردة فعل هذا الأخير، انطلاقا من حرصه على درء الأخطار التي تواجهه، وحرصه على استمرار تطوير مستوى حياته، والارتقاء به نحو الأفضل، سارع الإنسان إلى وضع ما يشبه النظام، الذي بدأ بسيطاً في إجراءاته، ويقتصر على ردة الفعل الآنية الباحثة عن درء خطر الأزمة والنجاة من ويلاتها، قبل أن يتطور كي يُصبح مادة تدرس في الجامعات والمعاهد التي أصبحت متخصصة فيا أصبح يعرف بعلم "إدارة الأزمات"، الطبيعية منها وتلك التي ولدها الإنسان ذاته.

ويرجع بعض المراجع جذور تأسيس علم إدارة الأزمات إلى "منتصف الستينات من القرن العشرين وذلك ناتج عن "دراسة قامت بها جامعة هارفرد الأمريكية عن ماهية الأزمة وكيفية احتوائها ومواجهتها. وتجدر الإشارة إلى أنَّ إدارة الأزمة تنبثق من أصول الإدارة العامة وذلك لما تقوم به الإدارة العامة من دور في مواجهة الكوارث العامة والطارئة والمفاجئة والحرائق والفيضانات والزلازل والحروب التي تقابل المجتمع وتتصدى لها الدولة بكل ما تقدر عليه في حدود إمكانياتها المادية والبشرية."