العرب والتكنولوجيا (1-3)

 

عبيدلي العبيدلي

يصفُ البعضُ العَلَاقة بَيْن العرب والتكنولوجيا بأنها معقدة، بل ويذهب إلى حدِّ اعتبارها من أكثر العلاقات تعقيدًا عند محاولة رسم معالم تلك العلاقة بين أمة أو عرق أو سكان منطقة جغرافية من جانب والتكنولوجيا من جانب آخر.

ويستند من يتبنى هذا الوصف عند تشخيص العلاقة، إلى كَوْن المنطقة العربية هي مهد الديانات السماوية التوحيدية الثلاث: اليهودية، والمسيحية، والإسلام. وطالما -من وجهة نظر هؤلاء- هناك علاقة "تناقض حاد" غير قابل للحل بين تلك الأديان السماوية من جهة، والتكنولوجيا من جهة؛ فمن الطبيعي والمنطقي أيضا أنْ تتسم العلاقة بذلك المستوى العالي من التعقيد الذي يحُول بين تعايشهما، ويقف عقبة أمام محاولات المواءمة بينهما. وبالتالي؛ يستنتج هؤلاء أنه لا يمكن أن تتوطن التكنولوجيا في تربة العقلية العربية، بغض النظر عن المحاولات المستميتة التي سعت لتحقيق ذلك.

لا يختلف اثنان على أن مظهر هذه العلاقة الخارجي يُمكن أن يقود إلى مثل ذلك الاستنتاج، لكن التمعُّن بعُمق فيها يقودنا إلى نتيجة مُغايرة لها تماما. وأحيل من يخالف هذا الرأي إلى كتابات الباحث المغربي يحيى اليحياوي، الذي يؤكد في أكثر من دراسة له تبحث في تلك العلاقة، والذي يصر على أنه "قد يبدو الربط بين الإسلام والتكنولوجيا في هذا المقام، غير ذي موضوع كبير. فهذا مستوى وذاك مستوى آخر. وقد يبدو من قبيل الترف الفكري الذي قد لا يفيد قارئًا أو يُقدِّم طرحًا. ومع ذلك، فإنَّ إثارة قضايا من هذا القبيل تبدو ذات راهنية كبرى"، ثم يدعو قائلا: "ليس إثبات التوافق أو التنافي القائمين أو المفترضين بين الإسلام والتكنولوجيا أو نفيهما. القصد إنَّما إعمال البحث عن (وفي) جوانب التفاعل التي تقوم (أو هي قائمة) بين ظاهرتين متنافيتيْن في مظهرهما، لكنهما محفزتان بعضهما بعضًا في الزمن والمكان".

هذا يقودنا للقول بأنَّ ما نشهده اليوم من كتابات تفتعل ذلك التناقض لم تعد قادرة على أن تصمد في وجه أبحاث جادة أخرى ترى فيهما الكثير من التكامل.

مقابل ذلك، ليس هناك من بوسعه إنكار ذلك التخلف الذي تعاني منه صناعة التكنولوجيا العربية، إن جاز لنا القول. ولسنا بحاجة إلى سوق الكثير من الدلائل التي تثبت ذلك، تكفي الإشارة السريعة  إلى  "المقارنة الكاشفة" التي نشرها الكاتب عبدالحافظ الصاوي التي تقول "من خلال البيانات المتاحة عن أداء الدول العربية في مجال الصادرات ذات التكنولوجيا المتقدمة في قاعدة بيانات البنك الدولي، على مدار الأعوام 2011 و2012 و2013، تبين أن الأداء شديد الضعف؛ فهو لا يزيد على 1.72 مليار دولار و1.36 مليار دولار و1.51 مليار دولار على التوالي، في حين أن إجمالي الصادرات السلعية العربية في تلك الأعوام وصل إلى 1.19 ترليون دولار، و1.32 ترليون دولار، و1.31 ترليون دولار. وتزيد تركيا في مضمار تصدير السلع ذات التكنولوجيا المتقدمة عن أداء جميع الدول العربية خلال السنوات الثلاث محل المقارنة، وإن كان بفارق ليس بالكبير؛ حيث حققت تركيا 1.9 مليار دولار، و1.9 مليار دولار، و2.1 مليار دولار. بينما يتخطَّى الكيان الصهيوني، أداء العالم العربي بفارق شاسع، وصل إلى 8.8 مليارات دولار و9.2 مليارات دولار و9.6 مليارات دولار، في نفس الفترة، مع الأخذ في الاعتبار الفارق في عدد السكان والإمكانات المادية، وكذلك عدد الجامعات والمعاهد ومراكز البحوث، التي تأتي في صالح العرب، لكنهم لا ينتجون ما يجعلهم يحتلون مراتب متقدمة في إنتاج التكنولوجيا المتقدمة. وتشير بيانات البنك الدولي أيضا إلى أنَّ ماليزيا تعتمد بشكل رئيس على الصادرات ذات التكنولوجيا المتقدمة؛ حيث حققت 61.1 مليار دولار و61.2 مليار دولار و603 مليار دولار، في أعوام 2011 و2012 و2013".

وأكثر من ذلك، وكما تتحدث بعض المواقع الإلكترونية "يعتبر عالمنا العربي هو الأكثر تخلفا في مجال الاستفادة من التكنولوجيا العالمية، ويظهر هذا في نسبة مستخدمي الإنترنت؛ فهي في العالم العربي أقل من 1% من بين مستخدميه في العالم، بينما هم يشكلون 5% من سكان العالم! ويكفي أن نعلم أنَّ مُساهمة العرب لا تتجاوز 3% من إجمالي صادرات العالم، علما بأنَّ أغلبها صادرات نفطية بالإضافة للثروات الطبيعية والزراعية، فإذا بنا لا نقدم شيئا للعالم ولا نساعد بتقدمه إلا بأقل بكثير من 3%".

أسوأ من ذلك، وكما يؤكد الكاتب اللبناني مسعود ضاهر: "لم يكن استيراد العرب للتكنولوجيا المتطورة يهدف أساساً إلى توطينها والإبداع فيها؛ فقد اقتصر دورها على خدمة فئة قليلة العدد من العرب، في حين استمر الجهل بالتكنولوجيا سائداً، وبنسب متفاوتة بين دولة عربية واخرى، وقطاع وآخر. فالتكنولوجيا وثيقة الصلة بالعلوم العصرية والبحث العلمي، وهي تتطلب احتراما حقيقيا للعلم والمعرفة من جانب المجتمع العربي، ورغبة صادقة في استمرار مواكبة التقدم العلمي في العالم، وتطوير هيكلية فاعلة لتشجيع الباحثين العرب. وعلى عكس الدور الذي لعبه القطاع الخاص في تطوير البحث العلمي في كثير من دول العالم، فإنَّ دور القطاع الخاص في الوطن العربي بقي محدودا للغاية في مواكبة تحديات عصر العولمة. يكفي التذكير بأنَّ الإنفاق على البحث العلمي في دول العالم المتطورة يزيد عشرات المرات على ما يتمُّ إنفاقه في المنطقة العربية التي تحتل موقعا قريبا من الصفر في قائمة الدول التي تشجع البحث العلمي".

وما ينبغي التأكيد عليه هنا أنَّه وعند البحث بين الاثنين: العربي والتكنولوجيا، ليس المقصود بالعلاقة التي تربط بينهما اختراع عربي قزم هنا، أو آلة تكنولوجية صغيرة هناك، أو معهد في مدينة عربية يتباهى بإضافة عبارة "تكنولوجي" إلى اسمه أو بعض مقرراته التي يوفرها، بل ولا حتى افتتاح فرع لجامعة عريقة غير عربية في مدينة أخرى.

فالتكنولوجيا المقصود بها هنا، هي تلك التي يصفها الكاتب حامد الموصلي بأنها: "نتاج حضاري، وفي الوقت نفسه، أداة لإعادة إنتاج الحضارة، لهذا فإن الاستمرارية الحضارية -أي قدرة الحضارة على إعادة إنتاج نفسها والحفاظ على وجودها- رهن الفعالية التكنولوجية. وكما أنَّ ضمور القدرات التكنولوجية يؤدي للاغتراب والاضمحلال الحضاري، فإنَّ الإبداع التكنولوجي الذاتي هو إحدى الأدوات المهمة للتجدد الحضاري".