"الحرمنة" في 90 يوما فقط!

د. مجدي العفيفي

 (1)

تساؤلاتك تثير الابتسامة في هذا الرقت الذي تعز فيه حتى الـ «فيمتو ابتسامة» !. من أجل «بنسين» فقط (الجنيه الاسترليني =100). ترى ماذا تقول الآن عن أثرياء كورونا؟ وكيف تنظر الى هذه الأرقام المرعبة التي تحققت في غضون 90 يوما فقط؟ وعليك وعلينا أن ننتظر أرقام تجار الأدوية واللقاحات والأمصال، وومصاصو دماء الشعوب عبر البنوك والقروض، و..و... و ....!

أيها الرجل البريء، ومثلك كثر، كيف ترون الحصاد المالي للحظة الكورونية الراهنة؟ وبين «السنتين» في واقعتك وبين ارقام تجار كورونا.. سنوات ضوئية!

أنت سألت نفسك مؤنبا ومذنبا: «هلأنا حرامي؟!» فماذا تقول عن هؤلاء الأثرياء.. تجار لعبة كورونا؟ وهل تتذكر تلك البائعة العجوز ، ذات الأخلاقيات التي انقرضت، والتي ربما تكون أما لأحد هؤلاء التجار ذوات الثراء الفاحش؟

 (2)

من المفارقات التي تجعل الفكر يشتعل حيرة تتكشف بدون عناء، تلك الظاهرة التي تتجلى عقب كل أزمة ذت صبغة واسعة، وتسمى «أغنياء الحروب» أو «تجار الحروب» ويكثفها نصف بيت شعر عربي صار مضرب المثل أبدعه شاعرنا «المتنبي» في إحدى قصائده قبل حوالي الألف عام :

بِذا قَضَتِ الأَيّامُ مابَينَ أَهلِها

مَصائِبُ قَومٍ عِندَ قَومٍ فَوائِدُ

تجسد هذه الحكمة الإنسانية حال أولئك الذين يعيشون على كوارث الناس ومآسيهم في العالم، ويزيد خطرهم ويتعاظم، إذا كانوا جزءاً من القيادة السياسية في أي وطن من الأوطان، فهم من ذلك الموقف المتحكم، يعرفون كيف يُطيلون أمد الحرب ويجعلون من مجازرها المرعبة وسيلة للإثراء، وإطالة زمن النفوذ، نفوذهم ومن يشاركهم فوائد الحرب وما ينتج عنها من وسائل للكسب غير المشروع، الذي يدخل في باب ما يسمى بالمحرمات الكبرى، وبما أن الوطن العربي يتعرض في عدد من أقطاره للحروب ومصائبها غير المتوقعة، فإن هناك قوى إقليمية وأجنبية تشارك تجار الحروب في الاستفادة القصوى من هذه الحالات، فتسارع بالتدخل تحت مسميات مختلفة، أما أولئك الباحثون في المصائب عن النفوذ السياسي والاقتصادي، فإن خطرهم أكبر وأعظم بما لا يقاس، طبقا لتوصيف الصديق الكبير المفكر اليمني د. عبد العزيز المقالح.

(3)

لن تظهر المفارقة التي أشرت اليها في السطر الأول في هذا المقال وهو يحمل جينات المقال كله، والتي تتجلى في اطروحة الكاتب الصحفي الزميل «مؤمن غالي» من السودان الشقيق «هل أنا حرامي؟» في ضياء واقعة حدثت له عام 1978 في لندن.. اقول إن المفارقة لن تظهر إلا حين نتأمل - أولا - في مضمون التقرير الذي أصدره معهد الدراسات السياسية في امريكا (منذ بداية إجراءات العزل والحظر فى 18 مارس الماضي إلى اليوم اول يونيو) إذ إن ثروات مليارديرات الولايات المتحدة ومن بينهم جيف بيزوس، ومارك زوكربرج، قفزت مجتمعة بنسبة تتجاوز 19%، أو ما يعادل نصف تريليون دولار منذ بداية أزمة فيروس كورونا، وأنه منذ أن بدأت إجراءات العزل فى 18 مارس الماضي، وقد ارتفعت ثروات أغنى الأثرياء بما يتجاوز النصف تريليون دولار، فى وقت تقدم فى 42.6 مليون عامل بطلبات للحصول على إعانات بطالة، وفقا لشبكة CNN الأمريكية.

وأكد التقرير أن تسارع الثروة لأغنى الأمريكيين مدفوعًا بالانتعاش الملحوظ لسوق الأوراق المالية ، الذى ارتفع بشكل كبير إلى حد كبير بسبب الإجراءات غير المسبوقة من قبل الاحتياطى الفيدرالي، وكذلك ارتفاع سوق الأوراق المالية يساعد الأغنياء أكثر من بقية البلاد. ذلك لأن أكبر 10٪ من الأسر تمتلك 84٪ من جميع الأسهم فى 2016 ، وفقًا لأستاذ جامعة نيويورك إدوارد وولف، وقال جو بروسويلاس كبير الاقتصاديين فى RSM International "لديك خليط قابل للاشتعال من فقدان الدخل وعدم المساواة".

وعلى صعيد شركات التكنولوجيا الكبرى أشار التقرير إلى انها أصبحت أكثر ازدهارا خلال أزمة تفشي فيروس كورونا، حيث جعلت الأزمة أمازون أكثر أهمية مما كانت عليه بالفعل. ارتفعت أسهم أمازون بنسبة 47% من أدنى مستوياتها في منتصف مارس، كذلك تعافت شركة فيس بوك أيضًا بسرعة لتسجيل مستويات قياسية.

وخلص التقرير إلى أن صافى قيمة رئيس تسلا (TSLA) إيلون موسك ومؤسسي Google سيرجى برين ولارى بيدج والرئيس التنفيذى السابق لشركة مايكروسوفت (MSFT) ستيف بالمر قد ارتفعت بـ13 مليار دولار أو أكثر منذ 18 مارس الماضي.

 (4)

ارقام مرعبة ومكاسب خرافية، حققها فيروس كورونا بطل «مسرحية كورونا العالمية» في غضون 90 يوما فقط ، أليس كذلك.. !.هذه الأسماء وما وراءها تلعب «عيني عينك» بالعالم، علم أم لم يعلم، وإذا علم فليس لديه الا الاستسلام كالمعتاد، واستعيدا من الذاكرة العالمية احداثا في المائة عام الأخيرة، مثل الحربين العالميتين اللتين جعلت اوربا والحضارة الغربية مثل القطة التي أكلت بنيها، وأفقدت العالم الثقة فيها وفي صناعها.

 (5)

أين هذه الأرقام من قصة واقعية حياتي عاشها الزميل السوداي«مؤمن غالي» وكتبها تحت عنوان «هل أنا حرامي؟» وهي تكتسب مصداقبتها الفائقة من أن بطلها هو الصحفي ذاته « أنا بطل هذه القصة التي حدثت لي في لندن سنة 1978م، أي أيام العزّ والترف والثراء العريض، عندما كان سعر صرف الجنيه أكثر من ثلاثة دولارات، وعندما كانت زيارة لندن بالنسبة إلي كزيارتي لأي مدينة سودانية، فقد كنت وقتها دائم التردد عليها، ويضيف: «كنت وقتها أركب قطار الأنفاق يوميا، وكنت وأنا في طريقي أعرّج على «كشك» لسيدة إنكليزية عجوز، تعودت أن اشتري منها لوح كاكاو موجوداً على رف منفصل بـ 18 بنساً حسب ما هو مكتوب على اللافتة، وكنت كل مرة أقضي عندها بعض الوقت لأثرثر معها.

وصادف في أحد الأيام أن رأيتها وهي ترصّ ألواح كاكاو شبيهة بما تعودت أن أشتريه منها، ولكن على رف منفصل بجانب الرف الأول، ثم تضع عليه لافتة بسعر 20 بنساً، فسألتها مستغربا: هل هذا نوع جديد من الكاكاو؟ فردت: بأنه نفس النوع، فواصلت سؤالها باستغراب: إذاً، لا بد أنه بوزن وحجم أكبر، أو قد يكون من مصنع آخر؟ فأجابت: بل هو من نفس الوزن والحجم، ومن نفس المصنع.

ويواصل الصحفي النابض اسئلته بإلحاح: إذاً، لماذا هناك سعران مختلفان لنفس السلعة؟ فردّت: حدثت مشاكل في نيجيريا التي نستورد منها الكاكاو أدت الى ارتفاع سعره، وكما ترى فقد وضعت على الرف الثاني السعر الجديد للكاكاو الحديث. لا بد أن صاحبنا لم يستوعب الأمر، فقد واصل تساؤله: ولكن من سيشتريه منك بـ 20 بنساً ما دمت تبيعين النوع نفسه بـ 18 بنساً؟ فردّت: نعم، أنا أعلم ذلك، ولكن بعد أن ينفد ذاك الذي هو بالسعر القديم فسوف يشتري الناس الكاكاو من الرف الثاني بالسعر الجديد. يقول، فسألتها ببلادة وبلا مبالاة: إذاً لماذا لا تخلطين النوعين معا وتبيعينهما بالسعر الجديد، أي بـ 20 بنساً؟ فجحظت عينا العجوز، واحمرّ وجهها غضبا، وسألتني بفزع: هل أنت حرامي؟

يقول كاتبنا (البريء): ومنذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا وأنا أسأل نفسي: هل حقا أنا حرامي، أم هي الغشيمة، وإذا كنت أنا قد اتهمت بـ«الحرمنة» خلال ثرثرة، فماذا نسمي أولئك الذين يشترون آلاف الأكياس من الدقيق بسعر رخيص، ثم يخزّنونه ليبيعوه لاحقاً عندما يرتفع سعره؟ وماذا نسمي أولئك الذين يخزنون السكر واﻷرز والزيت وغير ذلك من قوت الناس، ليبيعوا ما خزَّنوه في أوقات الشدة والأزمات بأعلى اﻷثمان، مستغلين حاجة الناس الماسَّة إليه؟!

(5)

 ولقد ذكرت والمصائب تكثر.. وذكرت واقعتك والمكاسب تنهمر.. والمصائب مصائد.. والفوائد بالميارات..

 فيا أيها الكاتب صاحب الضمير الذي لا ينبض الآن إلا قليلا

أذكرك بنواة الجملة الأولى في المقال لعلك تشاركنا ثقافة الأسئلة والسؤال نصف الجواب..

 ماذا يقول الآن عن أثرياء كورونا؟ وكيف ينظر الى هذه الأقام الرهيبة التي تحققت في غضون 90 يوما فقط؟

وعليك وعلينا أن ننتظر  أرقام تجار الأدوية واللقاحات والأمصال، ومصاصو دماء الشعوب عبر البنوك والقروض، و.. و... و...!

أيها البريء استاذ مؤمن، ومثلك كثر، كيف ترون الحصاد المالي لللحظة الكورونية الراهنة؟ وبين «البنسين» في قصتك وبين ارقام تجار كورونا سنوات ضوئية!

أنت سألت نفسك: هل انا حرامي؟! فماذا تقول عن هؤلاء الأثرياء تجار لعبة كورونا؟ وهل تتذكر تلك البائعة العجوز، ذات الأخلاقيات التي انقرضت، والتي ربما تكون أما لأحد هؤلاء التجار؟