حاتم الطائي
◄ الرؤية السامية لعُمان ترتكز في جوهرها على بناء جهاز إداري متطور وحديث
◄ جهاز الاستثمار العماني منوط به توجيه دفة إدارة الثروة نحو الداخل بدلا من الخارج
◄ المرحلة المقبلة ستشهد المزيد من المراسيم السلطانية التي تعزز جهود "إعادة الهيكلة"
في الخطاب التاريخي الذي ألقاه حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم- حفظه الله ورعاه- عبر شاشة التلفزيون، كشف جلالته عن الرؤية السامية لعُمان المُستقبل، وحدَّد معالم المرحلة الراهنة، بل وكشف عن مجموعة من الخطوات، ستنتقل بوطننا الحبيب نحو آفاق رحبة من التقدم والبناء والنمو الاقتصادي وتمكين الشباب ودعم قيم العمل والإنتاج، وفوق كل ذلك تُعزز الروح الوطنية التواقة إلى بناء الوطن بكل ما أوتيت من طاقات، بكل نُبل وشرف وهمة وطنية وعزيمة لا تلين.
غير أنَّ أبرز ما كشفت عنه الرؤية السامية لعُمان الحديثة المتطورة، هي إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، بكل ما في آلية تطبيق هذا المفهوم من اتساع وتشعب؛ سواء من الناحية الإدارية والمهنية، أو من الجانب الاقتصادي والتأثيرات الإيجابية لذلك على الميزانية العامة للدولة، فضلاً عن الجوانب القانونية من حيث صدور مراسيم سلطانية جديدة وآلية التنفيذ من قبل المسؤولين. وقد شهدت بلادنا نقاشات صحية واسعة خلال الأشهر القليلة الماضية، كلها تسعى إلى طرح مُقترحات عدة وحلول متنوعة لتطوير عمل الجهاز الإداري للدولة، فالبعض اتِّجه إلى الحديث عن الموظفين وآلية التقاعد وتعيين الباحثين عن عمل، فضلاً عن تحقيق المساواة في أنظمة التعيين والتقاعد، دون أن يكون داخل الأسرة الواحدة أخوان يتقاضيان رواتب مُختلفة وسيكون لهما معاش تقاعدي مختلف، رغم أنهما على نفس الدرجة الوظيفية، وانحسر مفهوم إعادة الهيكلة لديهم في هذا الجانب. آخرون أخذوا يتحدثون عن ضرورة دمج هيئات ومؤسسات ووزارات، وهؤلاء لهم حجتهم ورؤيتهم، لما يصفونه بـ"ترهل" المنظومة الإدارية وتشعبها، وتداخل الاختصاصات بين الجهات، وهو ما نتج عنه بيروقراطية غير مسبوقة في بعض الإجراءات بعدد من المؤسسات، وتعطيل للأعمال والمشاريع، بسبب بطء الإجراءات وتعقدها بصورة ينفر منها صاحب المُعاملة، سواء كان مواطناً أم مستثمراً.
ولأننا في عُمان دولة مؤسسات رصينة، فإنِّ إعادة الهيكلة يجري تنفيذها بهدوء وتدرج، فهي سمة تميزنا نحن العمانيين بين بقية الدول، فلسنا دولة القرارات الثورية، ولا القوانين المُستعجلة، ولا حتى الأوضاع الاستثنائية، لقد أرسى جلالة السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- الأسس الراسخة لهذه الدولة، وشيِّد بنيانها الضخم بسواعد وطنية فتية، ومن نعم الإله علينا أن خصنا- بعد رحيل السُّلطان المُؤسس- بسلطان الخير والعطاء، جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- أيده الله-، والذي أكد في الخطاب التاريخي الأول لجلالته أنَّه ماضٍ على ذات النهج القابوسي القويم، وأنَّه ملتزم باستكمال مسيرة النَّهضة المُباركة.
ولذلك وخلال الأسابيع الماضية، صدرت مراسيم وقرارات وتمَّ الإعلان عن إجراءات، يمكن وضعها كلها تحت عنوان واحد "إعادة الهيكلة"، على النحو العُماني المتدرج، الذي يضع حساب كل خطوة يخطوها نحو الأمام، ويزن المتغيرات بميزان الذهب، لكي تتحقق في نهاية المطاف مصلحة الوطن والمواطن، فأي إجراء أو تحول في السياسات يسعى أولاً وأخيرًا من أجل خير عُمان الحبيبة، وهو هدف يتفق عليه كل أبناء الوطن الأوفياء.
وقبل يومين صدر مرسوم سلطاني سامٍ بإنشاء جهاز الاستثمار العُماني، يحظى بشخصية اعتبارية، ويتمتع بالاستقلال المالي والإداري، ويتبع مجلس الوزراء، ويضم تحت مظلته صندوق الاحتياطي للعام للدولة والصندوق العُماني للاستثمار والمديرية العامة للاستثمارات في وزارة المالية، وتنقل له ملكية كافة الشركات والاستثمارات الحكومية، باستثناء شركة تنمية نفط عُمان ومساهمات الحكومة في المؤسسات الدولية والشركات التي يصدر بشأنها أمر من جلالة السلطان، حسبما أوضح المرسوم السامي. وهذا المرسوم خطوة مُتقدمة للغاية على طريق إعادة الهيكلة، فتوحيد الصناديق تحت إدارة واحدة ودمج المؤسسات والهيئات في بوتقة واحدة، من شأنه أن يُعزز من وحدة الهدف والغاية، ومن ثمَّ لن تجد تناقضًا بين استثمار وآخر، أو بين شركة حكومية وأخرى من حيث التوجهات الاستثمارية، بل إنَّ الكل سيتناغم في منظومة واحدة تحت لواء واحد، بما يضمن سرعة تنفيذ الأهداف دون إبطاء أو بيروقراطية لا داعي لها.
ويمكن القول إنَّ آلية العمل المنظم تتجلى بوضوح في هذا الجهاز الجديد، فضلاً عن أنَّ البدء بقطاع الاستثمار يحمل العديد من الدلالات ويقدم الكثير من الرسائل، فتكريس الجهود ضمن منظومة شاملة وبإدارة متكاملة من بين دلالات عدة يمكن رؤيتها بجلاء، كما إن التركيز على قطاع الاستثمار في ظل ما تتعرض له السلطنة- والعالم أجمع- من تحدٍ اقتصادي غير مسبوق، نتيجة تفشي جائحة كورونا وما يمر به الاقتصاد العالمي من صعاب ألحقت أضراراً بالغة بكبرى الاقتصادات، كل ذلك يُؤكد النظرة الاستشرافية السامية، والعزم الأكيد على ضرورة السير في خطوط متوازية ومترابطة. الجهاز الجديد يؤكد أيضاً للمستثمرين داخل الوطن وخارجه، أنَّ الدولة العمانية وهي تواجه بكل شجاعة وتفانٍ أزمة فيروس كورونا، تضع عينا أخرى على المُستقبل الاقتصادي، وتمهد الطريق أمام نمو استثماري يدعم خطط التطور والتَّقدم. فلقد كان الصندوق الاحتياطي العام للدولة يخصص ما يزيد عن 80% من استثماراته نحو الخارج، والباقي في اسثتمارات داخلية، بات حتميًا الآن أن تتحول نسبة الـ80% إلى الداخل، فثروة الوطن محلها الاستثمار بالداخل، وليس الخارج.
وإدارة الاستثمار من خلال منظومة واحدة وجهاز واحد، تمنح المستثمر الثقة - خاصة الأجنبي- بأنَّ عُمان تتطلع بقوة إلى مواصلة توفير بيئة استثمارية مرنة وجذابة، وأن ضخ الاستثمارات العُمانية في الخارج أيضاً سيكون وفق رؤية استثمارية متحدة الأهداف، الأمر الذي سيُعظم من العائدات المتوقعة ويمنح السلطنة المزيد من القوة الاقتصادية، وتلك جميعها غايات لا يختلف عليها اثنان. ولذلك معادلة الاستثمار يجب أن تتغير، وهذا الجهاز الجديد نأمل أن يكون على رأس أولوياته التركيز على الاستثمارات الوطنية، ودعوة الصناديق العالمية وجذبها للعمل في مختلف القطاعات الواعدة لدينا.
ولذا نُؤكد أنَّ جهود إعادة هيكلة مؤسسات الدولة ماضية على قدم وساق، ومن المتوقع أن تشهد بلادنا المزيد من القرارات والمراسيم السلطانية التي تترجم النهج السامي بإعادة الهيكلة والإصلاح والتطوير المستمر، والتي تعكس الرغبة السامية الأكيدة في مواكبة المستجدات والتماشي مع المتغيرات. وكما تابعنا مؤخراً القرارات المتعلقة بالتقاعد وقرارات ترشيد الإنفاق غير الضروري، فإننا نرى في ذلك خطوة مقدرة تبرهن على الجهود المبذولة للتعامل مع مختلف التحديات، وفي القلب منها تحدي الباحثين عن عمل، فمن المؤكد أنَّ المتقاعدين سيوفرون وظائف أخرى للشباب، وسيساعدون- بتقاعدهم- على ضخ دماء جديدة، سواء في المستويات العُليا والمتوسطة، أو حتى بداية الدرجات الوظيفية.
وختامًا.. إنَّ المستقبل المنظور يحمل لنا في جعبته الكثير من الخير الذي سيتحقق بأيدينا، لأننا المعنيون ببناء الوطن وترسيخ أقدامه على طريق المُستقبل.. وإعادة هيكلة المؤسسات جزء لا يتجزأ من عملية البناء والتحديث الذي لا يتوقف، فلنكن داعمين لجهود التطوير، ولنتحمل مسؤوليتنا التاريخية كمواطنين تجاه وطننا، الذي منحنا الكثير من العطاء، كي ينعم أبناؤنا بخير وطنهم، ويكونوا هم السند والداعم في قادم الزمان.