جمال الكندي
مشهد مرور ناقلات النفط الإيرانية الخمس التي توجهت إلى فنزويلا له دلالات بداية تغيير إستراتيجية إدارة النظام العالمي من قبل قطب واحد. إيران كسرت الحصار الأمريكي الأحادي الجانب ضد فنزويلا من البوابة الاقتصادية، ولم تتحرك القوة العسكرية الأمريكية لحماية قرارها، فأحدثت بذلك شرخاً في قيادتها للنظام العالمي.
هذا النظام العالمي ولد من رحم حروب طاحنة شكَّلت نواته، وأفرزت منظومة الدول المسيطرة، التي خرجت من هذه الحروب منتصرة، فبعد الحرب العالمية الأولى كانت هنالك دولتان محوريتان استطاعتا أن تفككان الإمبراطوريات التي كانت تتحكم في النظام العالمي قبل الحرب العالمية الأولى مثل: الدولة العثمانية والألمانية والنمساوية، فأوجد انتصار بريطانيا وفرنسا في الحرب العالمية الأولى نظاماً عالمياً جديداً يحتل الدول بالطريقة المباشرة باسم (الانتداب) للدول التي كانت تحت المظلة العثمانية في المشرق العربي.
جاء النظام العالمي الجديد بقيادة بريطانيا وفرنسا ليُسيطر على مقدرات الشعوب العربية تحت ذرائع واهية هي أوهن من بيت العنكبوت، وهذه الدول جابهت هذا النظام الجديد بالنضال السياسي والعسكري في ذلك الوقت حتى نالت استقلالها، ولكنها للأسف لم تستطع قلع الغدة السرطانية "الكيان الصهيوني" التي زرعتها الإمبريالية الغربية في فلسطين.
الحرب العالمية الثانية أوجدت كذلك نظاماً عالمياً منقسماً إلى قطبين هما: رأسمالي تتزعمه "أمريكا"، واشتراكي بزعامة "الاتحاد السوفيتي" السابق وانقسمت الدول كما هو معروف بين هذين النظامين، وبعض الدول حافظت على التوازن الاستراتيجي بينهما حسب المصلحة الوطنية.
بعد هذه الحقبة جاءت الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي، التي انتهت بتفكيك الأخير، وتسيدت أمريكا المشهد السياسي والعسكري والاقتصادي في العالم لمدة عقدين من الزمان تقريباً، والذي بدأ يتغير تدريجياً في بداية الألفية الثانية ليرجع التجاذب السياسي والاقتصادي والعسكري بين "أمريكا" ووريثة الاتحاد السوفيتي "روسيا".
اليوم الهيبة الأمريكية تضرب من دولة ثارت وانقلبت على صديق وحليف أمريكا في منطقة الخليج العربي "شاه إيران"، سنة 1979م وشكلت محوراً مُعادياً للسياسة الأمريكية في المنطقة، فأمريكا تفرض نفسها قائداً للنظام العالمي بعد الحرب الباردة بقوة عسكرية كبيرة مُهيمنة على قرارات السلم والحرب في العالم، وبمنظومة اقتصادية ونظام مالي تتحكم فيه بمقدرات الشعوب، فهي تفرض أجندتها على العالم بقوة السلاح تارة وبالقوة الاقتصادية تارة أخرى، لأنها تملك أدوات الحصار الاقتصادي ضد الدول التي تخرج عن دائرتها السياسية، وعقوباتها الاقتصادية على إيران وقبلها على العراق وسوريا وفنزويلا وغيرها شاهد على ذلك، بل هي لا تكتفي بهذا فحسب بل تهدد حتى الدول الصديقة لها بالمُعاقبة المالية عندما تكسر أي دولة حصارها الاقتصادي.
اليوم السؤال المطروح من قبل المُتابعين والمعنيين بطبيعة النظام العالمي وفيمن يقود هذا النظام، هل وضع النظام العالمي سيتغير عندما تتغير المعادلة السياسية العسكرية والاقتصادية المهيمن عليها من قبل دولة واحدة؟ الجواب ربما يكون من عدة زوايا، وكل زاوية من هذه الزوايا لها دول معروفة تنافس أمريكا فيها، وأقصد الزاويا الاقتصادية والمنافسة القوية بين أمريكا والصين من بوابة التكنولوجيا، وبينها وبين روسيا في الجانب العسكري والسياسي، والاعتراضات الروسية في مجلس الأمن على القرارات الأمريكية ضد سوريا وغيرها من الدول كنا لا نراها في عهد الرئيس الأسبق لروسيا "يلتسين." ولكن عندما تخرج دولة مثل إيران فتكسر معادلة الردع العسكري التي كانت أمريكا تسيطر عليها عبر إسقاط طائرة تجسس أمريكية بملايين الدولارات، ولم ترد أمريكا على هذا الأمر واكتفت بالتهديدات الاقتصادية فقط، وعندما قُصفت قاعدة عين الأسد الأمريكية في العراق لم تقم أمريكا بالرد مع أنَّ رئيسها هدد بضرب الداخل الإيراني إذا قامت الأخيرة بقصف مواقع أمريكية في الخليج .
أمريكا تدرك أنَّ منظومة الردع العسكري تغيرت في المنطقة، والقاعدة الجديدة تقول "تؤلمني أؤلمك" ، ومشهد الجنود الأمريكيين في العراق وهم في توابيت يرسلون إلى ديارهم مازال عالقاً في العقل السياسي والعسكري الأمريكي.
لذلك بقي في يد أمريكا السيطرة على المنظومة الاقتصادية، فهي تملك النظام المالي العالمي، وتملك آلية الحصار الاقتصادي منفردة عن الأمم المتحدة . ولكن رؤية مشهد عبور ناقلات النفط الإيرانية الخمس البحر الكاريبي مخترقة حصار أمريكا لدولة فنزويلا يعني الكثير ، فعدم اعتراض أمريكا لهذه الناقلات بعد تهديد إيران في حالة استهدافها باستهداف ناقلات أخرى تابعة لحلفاء أمريكا في المنطقة يضع علامات استفهام كبيرة لما يسمى "توازن الردع الاستراتيجي، لذلك تعلم أمريكا أنَّ زمان العربدة العسكرية التي كانت تحمي مصالحها الاقتصادية انتهى أو شارف على الانتهاء، من أجل ذلك تقيم اليوم حسابات الردع العسكري الأمريكية حسب ما عند خصومها، وهذه كانت السياسة المتبعة من قبل الإدارة الأمريكية خلال فترة الحرب الباردة بينها وبين الاتحاد السوفيتي، ونتج عنها سباق التسلح فيما بينهما للمحافظة على قانون التوازن في الردع العسكري الذي انتهى في النهاية إلى تفكيك الاتحاد السوفيتي وتفرد أمريكا في العالم كقطب أوحد لأكثر من عقدين من الزمان .
هنالك هيبة أخرى أمريكية كسرت أمام العالم وهي سلاحها الناعم الذي تستخدمه لتغيير أنظمة الدول التي لا تدور في فلكها وهي "الحرية وحقوق الإنسان" وهذه الصورة مكسورة منذ زمن بعيد، ولكن أمريكا مازالت تستخدمها، فمنظر مقتل الرجل الأسود الأمريكي "جورج فلويد" على يد شرطي أبيض في مدينة "منيا بوليس"، وهي ليست الحادثة الأولى من هذا النوع، وعدم فعل السلطات الأمريكية شيئاً حيال ذلك يفقد مصداقيتها في أنها حامية حقوق الإنسان في العالم.
ختاماً أطرح هذا السؤال: هل ولى زمن الهيبة والهيمنة الأمريكية وأحاديتها على العالم؟ وأجيب عليه بكلام المفكر الأمريكي الكبير "نعوم تشومسكي" حيث يقول "إنَّ الولايات الأمريكية تتجه نحو الكارثة نتيجة افتقادها لاستراتيجية اتحادية في مواجهة وباء كورونا" والقاعدة تقول إذا ضعف بلد المركز الذي يُسيطر على العالم فقد هيبته، فالوهن في الداخل يفقد السيطرة على الخارج، وكورونا، وحقوق الإنسان المنتهكة في أمريكا والفوضى العارمة بسبب ذلك هي نقطة البداية للضعف الأمريكي الداخلي وعدم أهليتها لقيادة العالم، مع عدم قدرتها على خوض حروب استراتيجية تغير المشهد السياسي العالمي لصالحها يرسم لنا صورة انتهاء القطب الأوحد المسيطر على العالم، وبداية ظهوره في صورة (نمر من ورق).