الأنواء المناخية في ظفار

د. محمد بن عوض المشيخي

مرَّت على محافظة ظفار الأيام الماضية أمطار غزيرة وسيول جارفة وفيضانات لم تعهدها المنطقة من قبل، حيث بلغت كمية الأمطار المُسجلة في جبل سمحان بولاية مرباط 1055 ملم، مسجلة بذلك رقمًا قياسيًا غير مسبوق في تاريخ السلطنة.

وتتعرض المُحافظة في كثير من الأحيان لمثل هذه الأجواء المناخية الصعبة، خاصة في شهري مايو وأكتوبر من كل عام، وتؤدي هذه الحالات المدارية المحملة بالسحب العملاقة والرياح العاتية إلى حدوث سيول جارفة، وأضرار بالغة في المُمتلكات العامة والخاصة، وتعرف هذه النجوم منذ القدم بـ"الكليل والحيمر"، وعلى الرغم من ذلك لم تراعِ الجهات التي تُخطط للمشاريع أو التي تنفذها عبر هذه العقود الخمسة الماضية، هذه الأحوال المناخية وخصوصية المنطقة، مما يترتب على ذلك تضرر وتآكل البنى الأساسية خاصة شبكة الطرق والمرافق العامة بشكل عام، إذ نلاحظ أنَّ العمر الافتراضي لهذه المشاريع الخدمية قصير وغير مستدام. ففي موسم الخريف- مثلاً- تتحول مدينة صلالة الواجهة السياحية للسلطنة والتي تزدحم بزوار الخريف من أبناء المحافظات الأخرى ودول الخليج إلى مستنقعات وبرك مائية لعدم وجود شبكة تصريف لمياه الأمطار، وكذلك عدم اكتمال تركيب (الإنترلوك) في بعض الشوارع الداخلية في المدينة. فقد كنت أسال نفسي دائماً؛ أين الرعيل الأول من المهندسين العمانيين الذين ذهبوا إلى أعرق الجامعات في العالم لدراسة هندسة الطرق والهندسة المدنية بشكل عام  في العقود الأولى من النهضة العُمانية؟ لماذا لا تخضع المشاريع الحكومية للدراسة الكافية وتنفذ بشكل علمي وسليم وتكتمل فيها جميع العناصر الضرورية لتقاوم التحديات المناخية والبيئية؟ فقد أتت الإجابة من أصحاب العلاقة، ففي مُقابلة صحفية تحدث رئيس بلدية ظفار عن مشكلة البحيرات والمياه الراكدة وخطورتها على السكان، موضحاً أن تكاليف إنشاء شبكة تصريف مياه الأمطار في صلالة قد تصل إلى ما بين 100 مليون و200 مليون ريال عُماني، ويرى رئيس البلدية: أن مثل تلك  الشبكات غير وارد تنفيذها في الوقت الحالي على الرغم من أهميتها وذلك للظروف الاقتصادية التي تمر بها السلطنة حاليًا.     

لقد فقدت صلالة اثنين من شبابها وهما في مقتبل العمر بعد أن جرفتهما سيول وادي رزات، بينما غيَّب الموت مواطنا آخر في نيابة ذهبون بولاية ثمريت بسبب غزارة الأمطار في تلك المنطقة. أما على مستوى المقيمين فقد انهار أحد المنازل على رؤوس ساكنيه في صلالة الوسطى مما أدى إلى وفاة وافد وإصابة ثلاثة أشخاص بإصابات متوسطة. وإضافة إلى الخسائر البشرية تعرضت شبكة الطرق والجسور للانهيارات مما ترتب عليه توقف حركة السير بين صلالة والجزء الشرقي من المحافظة، وذلك بسبب تدفق المياه في نفق المعمورة والذي يتحول دائمًا إلى بحيرة مائية عند سقوط الأمطار، وكان ذلك في اليوم الثاني لهذه الأنواء المناخية، ثم تلا ذلك في اليوم الرابع انهيار جسر وادي صولي الذي يربط الولايات الشرقية بالعاصمة الإقليمية صلالة، كما أنَّ هناك انقطاعاً لطريق حاسك الشويمية والطريق الرابط بين ولايتي سدح ومرباط . ولم تكن المنطقة الغربية من ظفار أفضل حالاً، بل قطع سيل وادي عدونب غرب مدينة صلالة الطريق المتجه إلى ولايتي ضلكوت ورخيوت، بينما انقطع الطريق الرابط بين ولايتي ثمريت والمزيونة. أما الكهرباء والمياه، فقد انقطعت عن بعض الولايات بشكل دائم أو مؤقت مثل مرباط وغيرها من المناطق المجاورة لها.

وبالفعل عاشت ولايات محافظة ظفار ليالي مرعبة خاصة ليلة الأحد في عوقد؛ إذ تعرضت المدينة لفيضانات جارفة قادمة من الأودية والسهول المحاذية للأحياء السكنية متسببة في ارتفاع منسوب المياه ودخولها للبيوت والمنازل، وقد سجلت وسائل التواصل الاجتماعي رسائل التضامن مع هذه المنطقة التي تحول ليلها إلى نهار بسبب البرق والرعد المُتواصل خلال ساعات الليل إلى الفجر. أما مدن طاقة ومرباط وسدح فقد تعرضت لنفس المصير من قبل خلال أيام الحالة المدارية حيث دخلت السيول لبعض المنازل وغطت السيول الجارفة الشوارع وتوقفت الحركة المروية بشكل جزئي ومؤقت في تلك المدن.

وسط هذه الأجواء المُلبدة بالأنواء، يتجلى بوضوح دور قوات السلطان المسلحة بجميع تشكيلاتها وفروعها المختلفة الذين كانوا السند الحقيقي للمواطنين في هذه المحنة، فسلاح الجو السلطاني قام بعدة عمليات إنقاذ للمرضى والمحاصرين بالسيول في أكثر من ولاية من ولايات المحافظة، كما قامت الهندسة العسكرية بفتح الطرق التي تضررت في أكثر من منطقة، بينما قامت شرطة عُمان السلطانية بتقديم المساعدة والإنقاذ لـ 140 شخصاً في المحافظة؛ ولم يقتصر دور الشرطة على إنقاذ الأرواح، بل كان هؤلاء الرجال الأوفياء موجودين في أطراف الأودية وبالقرب من البرك المائية لتحذير النَّاس من العبور في السيول الجارفة طوال الأيام وليالي الأنواء المناخية. كما نسجل هنا كلمة شكر وتقدير للمسؤولين الذين تركوا مكاتبهم الفارهة في بلدية ظفار والمديرية العامة للطرق والنقل البري في ظفار، وفضلوا الخروج للميدان لمُتابعة عن قرب فرق العمل في مجالي العمل البلدي وإعادة فتح الطرق المتضررة.          

إن أضرار الحالة المناخية التي تعرضت لها المحافظة فجأة بدون تحذير واستعدادات من الجهات المختصة قد أثرت على سكان المُحافظة بشكل عام، خاصة الذين فقدوا أعزاء من أهلهم، وكذلك ممتلكاتهم التي تضررت كالمنازل والسيارات التي جرفتها المياه، والأهم من ذلك البنى الأساسية التي أصابها الكثير من الخسائر والأضرار، حيث نلاحظ ما يكتب في وسائل التواصل الاجتماعي من الشعور بالسخط وعدم الرضا من معظم الكتاب، وكذلك بعض أعضاء مجلس الشورى، وأعيان المحافظة الذين عبر كل واحد منهم بطريقته، وتعود ردود الأفعال تلك لعدة أسباب يمكن أن تُلخص في النقاط الآتية:

1. الأرصاد الجوية العمانية لم تكن كما تعودنا منها في المرات السابقة، حيث لم تكن التنبؤات دقيقة هذه المرة، إذ كانت المعلومات المتوفرة والتي تمَّ بثها للمواطنين لا تعبر عن كمية الأمطار الغزيرة وتدفق الأودية بغزارة. فلم يقم مركز الإنذار المبكر بالتحذير المسبق عن الحالة بل كانت النشرات الجوية تتحدث عن منخفض عابر. فقد ترتب على ذلك اتجاه الجمهور إلى مصادر محلية عبر رواد وسائل التواصل الاجتماعي من الشباب المتابعين لمواقع الطقس الأمريكية والأوروبية خاصة بعد اتضاح الصورة الحقيقية للحالة المدارية في ظفار.     

2. كانت الاستعدادات من الجهات الرسمية لهذه الأنواء على غير العادة، فهي قليلة أو شبه معدومة، فبعض اللجان المختصة بالطوارئ بدأت أعمالها بعد مرور يومين من الأنواء، بينما كان يفترض أن تكون الاستعدادات والاجتماعات قبل الحالة المدارية بعدة أيام.

3. البنى الأساسية للمرافق والطرق في المحافظة: كشفت الحالة المدارية الحالية من قبل ذلك إعصار (مكونو) ضعف البنى الأساسية في المحافظة وعدم قدرتها على الصمود في وجه الأعاصير والأنواء المناخية بشكل عام، فالمواصفات التي وضعت من قبل جهات الاختصاص من مجلس المناقصات ووزارة النقل وبلدية ظفار كانت دون المستوى المطلوب، فالجسور الجديدة في مدينة صلالة – مثلا- والتي كلفت خزينة الدولة ملايين الريالات تحولت إلى برك وتجمعات للمياه حتى بدون تصريف للمياه في محيط هذه الجسور.

ومشكلة تصريف المياه تعاني منها جميع المدن العمانية بلا استثناء، فمدينة مسقط العاصمة تغمر شوارعها المياه في كل مواسم الأمطار في المحافظة. فإذا كنَّا اليوم نعاني من الأزمة المالية، فماذا عملنا في أيام الرخاء الاقتصادي والوفرة النفطية خاصة العقد الماضي، حيث تملك السلطنة أفضل الخبراء في مجال هندسة الطرق، وكذا نملك بيوت خبرة رفيعة ممثلة في جامعة السلطان قابوس وأقسامها التخصصية ذات العلاقة، كقسم الهندسة المدنية في كلية الهندسة وقسم الجغرافيا في كلية الآداب والعلوم الاجتماعية، فالأموال كانت موجودة وفي متناول المخططين والمنفذين للمشاريع العملاقة في السلطنة، من إنشاء شبكات لتصريف المياه في مختلف الحواضر العمانية كمرحلة أولى، ثم الانتقال إلى المدن الأخرى في المرحلة الثانية، فشبكات التصريف هذه إذا ما نفذت في وقتها كانت ستنقذ الأرواح وكذلك توفر كميات كبيرة من المياه للزراعة والاستخدامات المتعددة.

في الختام نترحم على أرواح شهداء الأنواء المناخية، ونقترح إنشاء العديد من سدود الحماية في المحافظة، خاصة سد لحماية مدينة عوقد، وسد آخر للمياه المتدفقة من شلالات دربات إلى البحر منذ عدة سنوات.. فهذه المياه الضائعة سوف ترفد المنطقة بكمية كبيرة من المخزون المائي الذي نحن في أمسّ الحاجة إليه. وكذلك سد لحماية مركز ولاية سدح أو على أقل تقدير تحويل مسار الوداي الرئيسي الذي يقطع الولاية إلى الوادي المجاور غير المأهول بالسكان.