الإنسان والتكنولوجيا ( 1 - 4)

عبيدلي العبيدلي 

فرضت التكنولوجيا نفسها كعنصر أساسي من عناصر حملة مواجهة جائحة الكورونا. وجسدت ذلك من خلال استخدام برمجيات التواصل عن بعد مثل "زووم" (Zoom)، و"مايكروسوفت تيمز" (Microsoft Teams)، وأخرى غيرهما.

وجدنا الإنسان، وهو في مواجهته لتداعيات تلك الجائحة، لا يملك إلى أن يلجأ إلى مثل تلك البرمجيات طوعا، وباندفاع وكثافة غير مسبوقتين، نظرا لتعطل وسائل الاتصال الأخرى التي كانت توفر له القدرة على الحركة والانتقال، لتحقيق أهداف أنشطته اليومية في التواصل والإنجاز مع الآخر، على المستويين الفردي/ الشخصي، والمهني/الجماعي. فقد اكتشف الإنسان، وبشكل ملموس، مساهمة تلك البرمجيات في تسهيل مهام جميع الأفراد، والمؤسسات على حد سواء على إدارة شؤونها، بالكفاءة والمرونة المطلوبتين، عندما استعان الإنسان بها في سعيه لتجاوز العوائق الصحية، والإجراءات الوقائية التي رافقت تفشي جائحة الكورونا، سواء من أجل تحقيق أعلى درجة من الإنجاز للحد من هدر وقت العمل الضائع، بسبب "البقاء في المنزل"، أو عند الحرص على اختصار زمن الإنجاز، بما يسرع من عمليات اتخاذ القرار أو تلبية احتياجات متلقي الخدمة.  وبفضل كل ذلك، أثبتت التكنولوجيا حضورها، وجدوى استخدامها، في فترة قصيرة نسبيا مع تلك التي كانت هي في حاجة إليها، كي تثبت جدوى الاستعانة بها، بما يشمل ذلك من ضرورة تعميق الإنسان لعلاقاته مع التكنولوجيا، إن هو أراد التطور، وصمم على التقدم نحو الأمام. 

وحققت التكنولوجيا هنا القدرة على انجاز الكثير من الأعمال، وعلى وجه الخصوص تلك التي تحتاج إلى عقد اجتماعات، دون الحاجة إلى تواجد المعنيين "فيزيائيا" في مكان واحد. فحلت "الاجتماعات التخيلية"، مكان "الاجتماعات التقليدية". 

ومن الطبيعي، أن يثير مثل هذا الحضور التكنولوجي، بأبعاده المختلفة الاجتماعية منها والمهنية، نقاشات متشعبة ومتعددة الجوانب، وفي حالات معينة معقدة وحادة، بشأن دور التكنولوجيا في المجتمع، والعلاقة التي تربط بين الإنسان والتكنولوجيا. وعلى نحو تلقائي، ودون تخطيط مسبق، انقسم المستخدمون بين مؤيد لهذا السلوك الإنساني الطارئ الذي فرضه تفشي وباء الكورونا، وداعيا لتوسيع نطاق الاستفادة منه، مشيدا بإنجازاته، وآخر معارض لذلك الاستخدام، محذرا من سلبياته، ومنذرا بعواقب وخيمة، على المدى القصير، ومتربصة بالإنسان ومجتمعاته، على المستوى البعيد. 

ولم يعدم النقاش بروز تلك الفئة الوسطية، التي يمكن وسمها بالموضوعية، التي راقبت العملية بتأن، فراحت تروج للمحاسن، وتحذر من مغبة السلبيات. وحضور تلك الفئات الثلاث مسألة طبيعية، بل وحتى منطقية عند بروز مثل تلك الظواهر، بما فيها تلك التي لا تنضوي تحت النقاشات المحتدمة اليوم بشأن مسألة استخدام التكنولوجيا، على نحو مكثف في أشطتنا اليومية.  ولربما يتوهم البعض منا أن مثل هذه النقاشات ودرجة حدتها هي وليدة اليوم، وربما يحصرها أيضا في فترة تفشي جائحة الكورونا، لكن هناك العديد من الشواهد التاريخية التي تثبت تكرار مثل هذه النقاشات المحتدمة التي عرفها الإنسان عبر مراحل قديمة من تاريخ نشوء العلاقة بين طرفيها، لعل الأقرب منها إلينا اليوم، هي تلك النقاشات التي عرفها الإنسان في مطلع القرن العشرين عندما، كما تنقل بعض المصادر على الإنترنت، " حظي موضوع العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا بالاهتمام، خاصة من قبل صناع الدراما (من روائيين وسينمائيين) الذين طالما شغل تفكيرهم ما سيجلبه التطور التكنولوجي من أثر على حياة البشر. فرأينا أفلاما كثيرة ترصد وتتنبأ، منها مثلا فيلم (حتى نهاية العالم Until The End Of The World)، وفيه يدمن البشر نوعا من التكنولوجيا تستطيع عرض أحلامهم وكأنها أفلام فيديو، ثم كانت ثلاثية أفلام (الماتريكس The Matrix) للأخوين ووتشوفسكي اللذين يرسمان المستقبل كأنه لعبة (واقع افتراضي Virtual Reality)، والبشر جميعا مدمجون فيها".

لذا، وبخلاف ما قد يتصور البعض، فعلاقة التكنولوجيا مع الإنسان، وأنشطته التي يمارسها قديمة، وتغوص عميقا كي تسبر أغوار تاريخ تطور المجتمعات البشرية. الأمر هو ان علاقة الإنسان بالتكنولوجيا قديمة. فأصل الكلمة أعجمي من جذور يونانية قبل تعريبها من مجامع اللغة العربي إلى كلمة "تقنية".  

وكما يرد في المراجع، "التّكنولوجيا كلمة ذات أصل يوناني، تتكوّن من مقطعين، المقطع الأوّل: Techno ويعني حرفة، أو مهارة، أو فن، أما الثاني: Logy فيعني علم أو دراسة". وهذا يعني أن عمرها تجاوز آلاف السنين.  وهناك تعريفات متعددة، لكلمة تكنولوجيا أو تقنية، البعض منها واسع وتشعب، بينما الآخر ضيق ومحدد، وبسيط. وفي بداية شيوعها، ارتبط مفهوم التكنولوجيا بالعلوم الفنية التطبيقية، ونشأت بموجب ذلك العديد من المعاهد ذات الصلة بهذا المفهوم الشائع حينها، وكان الأبرز بينها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) في الولايات المتحدة. 

ومن بين أفضل من تناول مثل هذه العلاقة، وفي القطاع الأكاديمي، على وجه التحديد، وكما ينقل موقع "إسلام أون لاين" الإلكتروني، "هي الباحثة الأستاذة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، شيري تيركل Sherry Turkle وهي باحثة في علم الاجتماع وعلم النفس، وقد قضت ما يزيد على 20 عاما في تقصي طبيعة التفاعل بين البشر والحواسب الإلكترونية (ومثيلاتها من المنتجات الإلكترونية)، كما أنها ألّفت كتابين غير مسبوقين في هذا الموضوع هما: (الذات الثانية: الحواسب وطبيعة البشر)، و(الحياة على الشاشة: الهوية في عصر الإنترنت). وهي الآن بصدد تأليف كتاب ثالث باسم مبدئي (ماكينات حميمة Intimate Machines).  

وقبل تناول موضوع الأوجه المتعددة التي تنظم العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا، ينبغي التنويه إلى الطبيعة المزدوجة التي تحكم تلك العلاقة وتحدد مساراتها المختلفة، فليس هناك من في وسعه أن ينكر أن التكنولوجيا اليوم، وفي نطاق سرد الظواهر الأكثر حضورا بين ايجابياتها، "أنها دخلت مجال الطبابة والتعليم والعديد من الخدمات الأخرى. بالإضافة إلى ذلك، جعلت التكنولوجيا نمط حياتنا أسهل من خلال التطبيقات المتعددة التي تقدّم خدمات عدة؛ فتسمح بعض التطبيقات بالتواصل بين الأشخاص سواء أكانوا قريبين من بعضهم أم كانت الجبال والبحار تفرّق بينهم، فتجعلهم يشعرون وكأنّهم ماثلون أمام بعضهم"، كما شاهدنا في تصدينا لتفشي مرض الكورونا.