أين الفيل؟

 

د. حارث بن عبدالله الحارثي

 

"الفيل في الغرفة" أو "الفيل في المجلس" هي عبارة واسعة الانتشار في الغرب وتطلق لمن يستطيع رؤية كل الأشياء الصغيرة ولا يستطيع رؤية الشيء الأكبر. تفترض العبارة أنَّ عدم رؤية الفيل هو بذاته "فعل" يختار الشخص القيام به طوعاً أو قسرًا، بعلمه أو بدون علمه.

لا توجد الكثير من الأفيال الحقيقية في وطننا العربي، ولكننا موطن لأكبر عدد في العالم من الأفيال الافتراضية التي تسكن في مجالسنا وفي عقولنا وفي ثقافتنا. عدم "رؤية الفيل" أصبح إحدى أبجديات ثقافتنا الأصيلة ويتوقع منّا، بل يتم فقئ حواس الكثيرين، ممن بدأوا في إدراك وجود الفيل كاملاً أو جزءا منه.

الفيل حيوان ضخم وقوي، يفرض سطوته على من ينظر إليه من بعيد ويبهرك عندما تقترب منه وتتلمس أجزاءه، فكيف يختفي الفيل الموجود أمامنا؟ هل الفيل حيوان سحري أم هناك خلل ما في أعيننا ؟

لنعد قليلا إلى الماضي، وبالتحديد إلى الألفية الثانية قبل الميلاد، حين ظهرت قصة الرهبان الخمسة والفيل. تتكلم القصة عن خمسة رهبان عميان، وكيف تلمس كل واحد منهم جزءا من جسد الفيل فقال الأول الذي لمس أقدام الفيل: هذه شجرة كبيرة وجذعها متين، وقال الثاني الذي لمس خرطوم الفيل: هذا ثعبان كبير، قال الثالث الذي لمس جوانب بطن الفيل: هذا جدار كبير وقوي، والرابع الذي لمس ذيله: هذا حبل متين، ومن لمس أنيابه قال إنها حربة ممتازة.

كيف لمسوا جميعاً أجزاءا من جسد الفيل ولا أحد منهم استطاع بمفرده التعرف عليه؟. لنتقدم قليلا في خط الزمن وإلى العصر الجاهلي وإلى حيوان كبير آخر، وقصة الإعرابي الذي سئل "كيفَ عرفتَ الله؟" فأجاب : البَعَرَةُ تَدُلُّ على البعير، والأَثَرُ يَدُلُّ على المَسير"، لم يحتج الإعرابي إلى رؤية الجمل ولا إلى رؤيته يسير واكتفى برؤية أدلته للاستنتاج الجازم بوجوده قريبًا في "مكان ما".

لرؤية الفيل، كما رأى الأعرابي الجمل، يحتاج الإنسان إلى "معرفة" الفيل وخصاله ومسالكه وسلوكه أيضًا. وليجتهد في سبيل الحصول على تلك المعرفة، يجب أن يكون هناك "سبب قوي" يجعل تلك المعرفة مهمة، وهي ارتباط الجمل بحياة وبقاء الأعرابي في بيئته من صحراء قاحلة.  إن لم يتوفر السبب، لا يمكن رؤية الفيل وهذا -في نظري- سبب مهم لاختفاء الفيل وعدم قدرة الشعوب العربية على رؤيته.

السبب الآخر الذي يدفع الكثيرين إلى عدم الاعتراف بمعرفتهم وبقدرتهم على رؤية الفيل، وتفضيل تجاهل أو إنكار وجوده، هو عائد إلى تبعات المعرفة والقدرة تلك على حياته وسلامته. أن تستطيع رؤية الفيل مهارة قد تكلف الكثير، ولذلك لا بأس من تحمل مخاطر التعايش مع الفيل. "عن أي فيل تتحدث؟.. أنا لا أرى أي فيل"، لا يوجد هناك فيل في الغرفة.

تعليق عبر الفيس بوك