د. عبدالله باحجاج
الكل يجمع أنَّه لا يمكن تحديد المدى الزمني الذي قد تستغرقه جائحة كورونا، فيما تُؤكد مُنظمة الصحة العالمية أنَّ العالم سيضطر للتعايش مع فيروس كورونا بشكل طبيعي لفترة طويلة، وتتولد الآن قناعات لدى صناع القرار في عواصم العالم بضرورة هذا التعايش، وهناك الكثير من الدول الأوروبية قد أنهت عزلها العام أمس، وبدأت في التدرج في مسيرة التعايش مع كورونا قبل عودة الحياة إلى طبيعتها، فالعالم يعيش الآن ازدواجية الصراع بين سلامتين وجوديتين "الاقتصاد والإنسان" وهذا أكبر التحديات المنظورة.
وبلادنا لن تخرج عن هذا السياق العالمي، إذ لا يمكن الاستمرارية في وقف الخدمات الحكومية وإغلاق الأنشطة الاقتصادية دون أن يكون هناك أفق زمني محدد لكورونا، لذلك سنجد أنفسنا نتناغم مع هذا التعايش، وهذا مسلم به، لكن وفق شروط موضوعية ومنبعها داخلي، بمعنى عدم نسخ تجارب الآخرين وتطبيقها دون التأكد من مدى صلاحيتها العُمانية، علماً بأن بيئتنا مختلفة حتى عن البيئات الخليجية.
من هنا نرى، أنَّ حتمية التعايش الاجتماعي مع كورونا، ينبغي أن تأخذ أولاً على صعيد كل محافظة ووضعها مع كورونا وفق مراحل متدرجة، مع تفعيل الوعي الاجتماعي وفق خطة إعلامية وصحفية مدروسة حتى نضمن وصول الرسالة التوعوية كل مواطن ومقيم، فمحافظات الوسطى "صفر" مع كورونا، ومسندم 6 حالات والمتعافون 5 حالات، وفي ظفار 20 إصابة والمتعافين 13، فلتبدأ كل محافظة منها بالتعايش مع كورونا من بعد العيد وفق ثلاث مراحل عالية الترصد مع التدرج الذكي، شريطة أن تكون كل محافظة جاهزة للتعامل مع المستجدات، خاصة من حيث القدرة الطبية، كخدمة الفحص وإعلان النتائج الفورية، واستيعاب الحالات السريرية، وتوفر أجهزة التنفس إلخ.
على أن يكون منتصف يونيو المقبل، فترة زمنية كافية لقياس مدى تعميم الخطة حسب نتائج فحوصات بقية المحافظات التي تعاني الآن من انتشار الفيروس، وهذا البعد الإقليمي سيكون أكبر مُمارسة عملية لتجربة الانفتاح على تطوير نظام المحافظات الذي يفكر فيه عهدنا السياسي الجديد، وهذه فرصة مواتية تخرج الآن من رحم ضغوطات كورونا، وقد نجد أنفسنا بعد كورونا أمام تجربة عملية يمكن البناء عليها لجعل كل محافظة من محافظات البلاد جاهزة للإدارة الذاتية لمُواجهة مختلف التحديات من جهة وكذلك يفتح لنا الضوء الأخضر دون مقدمات تنظيرية للامركزية اقتصادية التي ستؤسس اقتصاديات إقليمية وطنية.
الخطوة الهامة الآن، والعاجلة جداً، أن نبدأ بالخطة الإعلامية لرفع الوعي الاجتماعي بالاشتراطات والاحترازات الواجبة لمرحلة التعايش مع كورونا، فعندما تقول منظمة الصحة العالمية إن العالم سيضطر للتعايش مع كورونا لفترة طويلة، فهذا يعني أن هناك ثقافة جديدة ينبغي ترسيخها اجتماعيا لضرورات هذا التعايش القهري، وهذا يحتم على القيادات الإعلامية والصحفية بالتنسيق مع وزارة الصحة، إعداد خطة توعوية للترويج لهذه الثقافة الجديدة، ودونها لا يمكن الرهان على الانفتاح المتدرج.
لماذا؟ لأنَّ التعايش الاجتماعي مع كورونا مشروط بالوعي، إذن، قضيتنا الآن تكمن في كيفية صناعة ثقافة جديدة حتمية للتعايش مع كورونا، وهذا دور كل وسائل الإعلام الحكومية والرسمية عبر تسخير كل مساحتها التفاعلية من برامج إذاعية وتلفزيونية وملحقات وتحقيقات استقصائية سواء في مرحلة تأسيس الوعي الاجتماعي الجديد أو أثناء مرحلة التطبيق كمتابعة آنية وتصحيحية، فالمرحلة إعلامية وصحفية بامتياز مع الشراكة الصحية والأمنية والاجتماعية.
فبالعقل، لا يتصور أن تقدم العربة قبل الحصان، فالحصان المراهن عليه، هو ترسيخ الثقافة الجديدة في الساكنة الاجتماعية- من مواطنين ووافدين- قبل الانطلاقة وفي أجل زمني مضغوط بمدة زمنية قصيرة، وتتواصل مع الانطلاقة، لأن صناعة الثقافة الجديدة ليس لها مدى زمني محدد، وإنما هي حالة نمو مستمرة، الأهم في المرحلة الأولى، إرسال رسالة عاجلة للمجتمع مفادها: أن هناك الآن ضرورة مستعجلة للتعايش مع الفيروس، وبالتالي ينبغي حماية أنفسهم.
نعترف أن تلكم معادلة صعبة، لكنها ليست مستحيلة، بل وهي دافعة إلى أن تكون من الحتميات التي تشكل كبرى التحديات للحكومة والمجتمع معًا، على اعتبار أن الثقافة الجديدة ستكون متلازمة حياتية، بمعنى أنها لن تكون لكورونا حصريا، فإذا انتهى ستنتهي هذه الثقافة افتراضا بصرف النظر عن المدة الزمنية الطويلة لكورونا، فالثقافة الجديدة ستكون نهج حياة البشرية جمعاء، لأن عالم الفيروسات قد بدأ، ويبدو أنه سينافس البشرية على كوكب الأرض، ومعاركها- أي البشرية- معها ستعرف الاستدامة، لذلك، هي ثقافة جديدة لحياة مختلفة عن السابق تمامًا.
وهذا دور وسائل الإعلام لنشر مدونات السلوك الاجتماعية لكل سكان البلاد، خاصة تجاه القضايا التالية: التباعد الاجتماعي والجسدي: ماهياته وكيفياته؛ وكيف يمكن أن تتحقق؟ وكذلك أهمية تغطية الوجه بالكمامات، وأهمية التعامل بالخدمات الإلكترونية عوضا عن التعامل المباشر، كما يستوجب على المنشآت الخاصة والعامة الالتزام بالكشف عن درجة حرارة المترددين عليها، وكذلك توفير مستلزمات النظافة والتطهير المستمر، وحتميات الاستمرار في وقف التجمعات والمناسبات الاجتماعية والعامة.. فهذه الملامح الأساسية للسلوك الجديد الذي يفترض أن تسود إلزاما خلال مراحل التعايش الاجتماعي مع كورونا، لذلك نحتاج الآن إلى إعلام فاعل ومتفاعل في هذه المرحلة.
نريد إعلاما وصحافة مبادرة تكون هاجسها المساهمة في تحقيق المعادلة الصعبة، لكتابة تاريخ جديد في صناعة ثقافة التعايش الاجتماعي مع كورونا، فالمجتمع بكل فئاته وأطيافه وجنسياته بلغاته المتعددة والمختلفة، لا بد من أن يوجه بالمنطق والعقل إلى التحول السلوكي والقيمي لعصر جديد لمواجهة تحدٍ مخيفٍ، وقفت كل القدرات والإمكانيات العسكرية والطبية والمالية لكبرى الدول تتفرج عليه وهو يحصد الملايين، ومن ثم قررت أن تواجهه بسلاحي تكثيف العمل المخبري لإيجاد الدواء وفي الوقت نفسه التعايش الاجتماعي العقلاني.
في المُقابل، فإن هذا التعايش، يحتاج إلى تعاون وتكاتف جميع الشركاء من جهات حكومية وأمنية وخاصة وأهلية للحرص على تنفيذ الاشتراطات والاحترازات والرقابة، وإنزال العقوبات الفورية على كل مستهتر أو مخالف من فرد أو جماعة طبيعية أو معنوية.. فالردع الفوري وسيلة هامة لحمل الوعي ورفعه إلى مستوى الالتزام والإلزام بموجبات المرحلة الصعبة، بل إن ذلك سيساعد بصورة غير متوقعة على ترسيخ الثقافة الجديدة في سلوك وممارسات العامة.
وفي منتصف كل شهر، يجري تقييم الوضع العام في ضوء نتائجه الكلية، ومن ثم تقرير الخطوة التالية وفقًا لما تحتمه المصلحة الوطنية العليا، وبذلك ندير قضية التعايش الاجتماعي مع كورونا من منظور واقعنا العماني بخصوصياته ومن ثم كلياته مع الاستفادة من تجارب الآخرين، وسنجد أنفسنا، نصنع مرحلة جديدة مواتية للمرحلة الوطنية المنتظرة، وهي مرحلة تطبيق رؤية عُمان 2040 التي ستبدأ عام 2021.
أهم ما سنكتشفه بعد نجاح تجربتنا مع التعايش الاجتماعي مع كورونا، حدوث مجموعة تحولات اجتماعية كبيرة، ونضوج مبادرات سياسية سواء على صعيد المجتمع السياسي أو علاقات المؤسسات السياسية الداخلية أو نظام المحافظات، لذلك، فتجربة التعايش الاجتماعي العقلاني مع كورونا في ظل الشروط العمانية التي أشرنا إليها سابقا، ستفتح لنا الآفاق المستقبلية للتعايش مع أية أزمة مقبلة سواء من حيث الاستعداد البنيوي المؤسسي أو الاجتماعي والسياسي، فهي تجربة ينبغي أن نطلقها بحذر عال في الإجراءات وترصد كبير للنتائج، ونتمنى لو كانت هناك مؤسسة مؤهلة لتحليل النتائج مسبقاً حتى يتم إدارة مساراتها وهي في مخابر التجربة والتأسيس حتى يتم التحكم في النتائج وماهيتها.