الشباب والثورة المهنية في المجتمع

أحمد الرحبي

إحدَى النتائج الفادِحَة بسبب أخطاء سياسة التعليم في السلطنة؛ هي: خلق وضع حَرِج ميئوس منه لشريحة كبيرة من الشباب لم تكمل تعليمها. وفي الوقت ذاته، لم تُؤهَّل التأهيل المهني المناسب لخوض غمار سوق العمل؛ دون مُواجهة صعبة أمام العمال الوافدين الذين يهيمنون بحضورهم على سوق العمل العماني.

وذلك بالنظر إلى أنَّ التعليم المهني يعدُّ أساسيًّا ومهمًّا لأي مجتمع؛ لهدف غرس قيمة العمل والإنتاج والإبداع في البداية بين أفراده، ولهدف تطوير المجتمع وتنميته من خلال التعود على المشاريع المهنية المنتجة، وعلى توفير الكوادر المهنية المدربة بشكل احترافي في كافة المهن؛ فالمهنة وقيم العمل والإنتاج المرتبطة بها هي سلاح الشباب الذين يمثلون ثروة المجتمع والعنصر الأهم في بنائه ورفعته؛ فقطاع الشباب في المجتمع هو الجانب الحي والنابض بالحياة فيه، ذلك الجانب المرتبط بالعمل والنشاط، والمتطلع للمستقبل بعين ملؤها الأمل دائما، ولقد واجهت السلطنة في السنوات الأخيرة تحديات فيما يتعلق بهذا القطاع؛ سواء فيما يرتبط بوضع الشباب العماني في سوق العمل المحلي، أو قدرة هذه السوق على استيعاب مخرجات التعليم، مضاف إلى ذلك الوضع المهيمن للعمالة الوافدة بشكل قوي على سوق العمل العمانية، بلا إمكانية لمنافسة سهلة مريحة من الشباب العماني الباحثين عن عمل لنيل فرصة عمل، وهذه التحديات هي نتيجة تراكمات بسبب أخطاء تخطيطية منذ البداية، لابد أن نتحمل استحقاقاتها اليوم، بروح تصحيحية.

ومن ضمن هذه الأخطاء التي أدت لمثل هذه التحديات، ما يتعلق بالسياسة التعليمية التي وضعت وفق منهج فوقي جامد، يؤمن بهدف وحيد أوحد لهذه السياسة التعليمية، وهو تخريج ومكاثفة أصحاب التخصصات العلمية ومؤهلات الشهادات العليا، ليزدحم بهم سوق العمل.

لمناقشة مثل هذه الأخطاء مقرونة بالوضع الصعب لتوفير فرص العمل للشباب، وما ينتج عنها من تحديات كبيرة باتت تعاني منها الحكومة والمجتمع منذ سنوات، أبدأ كمدخل بما كتبه جبران خليل جبران في كتابه "النبي" بقوله: "أولادكم ليسوا أولاداً لكم.. نفوسهم لا تقطن في مساكنكم، فهي تقطن مسكن الغد الذي لا تستطيعون زيارته حتى ولا في أحلامكم حتى لو جاهدتوا لكي تصيروا مثلهم، وعبثاً تحاولون أن تجعلونهم مثلكم، لأن الحياة لا ترجع للوراء ولا تلذ لها الإقامة في منازل الأمس".

وفي مُجتمعاتنا العربية بشكل عام والخليجية بشكل خاص، يُمثل الشباب المتطلع للمستقبل والذي لا تلذ لهم الإقامة في منازل الأمس، كما وصفهم جبران، يمثلون الثروة الواعدة والطاقة الجبارة للمجتمع، فهم بقدر ما يمنحون المجتمع أملاً مشرقاً للمستقبل، بقدر ما يضعون علي عاتق المجتمع مسؤولية ضخمة لاستيعاب طاقة الشباب، وتأهيلها، ودمجها ضمن حركة المجتمع لتكون طاقة دافعة نحو مزيد من التقدم والرخاء.

ويُشكل الشباب القطاع الأكبر والأهم في المجتمع العماني كما في المجتمعات الخليجية كافة التي يصنفها علماء الاجتماع بالمجتمعات الشابة الواعدة؛ حيث المجتمع يتميز بأنه مجتمع شاب فتي، في ظل هيمنة شريحة الشباب وصغار السن على قاعدة هرمه السكاني، إزاء هذا الوضع ولتجاوز الأخطاء السابقة، لابد ومن المهم جدا، أن تبدأ الحكومة بالقيام بإجراءات عملية مدروسة، وذلك لاستيعاب هذه الطاقة الكبيرة الجبارة التي يشكلها الشباب وصغار السن في المجتمع، بأن تسعى مثلا كإجراء إستراتيجي في السنوات العشرين المقبلة، بالتمهيد لقيام ثورة مهنية على مستوى المجتمع، لاستيعاب هذه الطاقات اليافعة؛ فهذه في نظري تعد أسلم طريقة لحل جملة من المشاكل العالقة في المجتمع؛ مثل: استيعاب مخرجات التعليم، وحل مشكلة الباحثين عن عمل، ومعالجة موضوع العمالة الوافدة والتخلص منه نهائيا، وتسخير طاقة الشباب بما يفيد المجتمع.

ثورة مهنية تعتمدُ على قيم العمل والإنتاج؛ وذلك للاستعداد للطوفان القادم الذي يُشكله الشباب وصغار السن في المجتمع، الذين بدون شك ستكون لهم متطلبات ملحة ورؤى مختلفة نابعة من واقع مرحلتهم التي يعيشونها. وفي سبيل تحقيق ذلك، على الحكومة أنْ تعتمد التعليم والتدريب المهني كمادة أساسية في التعليم العام من بداية فصول التعليم الأساسي وإلى نهاية المرحلة ما قبل الجامعية، فلا بد للحكومة أن تتصدى لمحو الأمية المهنية أو التقنية أو التطبيقية -أو سمِّها ما شئت- في المجتمع العماني، بنفس درجة تصديها للأمية الأبجدية والحضارية.

فعلى عاتق تعليم هذا النوع ومِن مهامه، أن يغرس قيمة المصنع والورشة وموقع العمل لدى الطالب، وتعويده على الدور المهم لهما في تنمية حياته والاستجابة لجوانب كثيرة من متطلبات هذه الحياة، وتوفير السهولة والرفاهية له.

إنَّ تعليم الطالب في المدرسة المهن الحرفية، أو حصوله على تدريب مكثف في مختلف المهن الضرورية للمجتمع، إلى جانب تعليم المواد المعرفية والعلمية الأخرى، يتيح لهذا الطالب منذ البداية خيارات متعددة لكي يوجه وفق أحد هذه الخيارات طريقه المهني في الحياة، الذي يتيح له بكل ثقة توفير وسيلة مضمونة للعيش وتوفير حياة كريمة له دون أن يشكل عبئا على المجتمع، أو على خطط التشغيل.

... إنَّ تعلم المهن الحرفية أمرٌ مهمٌّ للطالب؛ كون أن واحدةً من هذه المهن التي خضع لتدريب عملي فيها، ربما قد تشكل له خيارا مهنيا إذا لم يوفق في إكمال مشواره الدراسي، وهو أمر وارد فليس كل الطلاب على نفس المستوى من القدرات الاستيعابية والمستوى التحصيلي في الدراسة، وهو الأمر الذي لا بد أن تلتفت إليه الحكومة عند وضع سياسة التعليم، ولا يغيب عن بال المخططين للإستراتيجية الموضوعة للتعليم أنَّ المدرسة هي المرحلة الأهم في حياة الطالب، فهي المرحلة التي تؤهله لخوض غمار الحياة، تؤهله تأهلا تربويا وعلميا ومهنيا، وهكذا تكون المدرسة كمؤسسة تربوية وتعليمية قد قامت بدورها تجاه أبناء الوطن على أكمل وجه، وفق رسالتها التعليمية التي تهدف وتحرص حرصًا شديدًا على تخريج مواطنين صالحين يكونون سندا قويا للمجتمع، ولا يقتصر دور المدرسة كما يُفهم خطأً على تخريج طلاب ليلتحقوا بالتعليم الجامعي، ليكونوا أطباء ومهندسين وإخصائيين في شتى المجالات، فهذا ليس دور المدرسة أبدا، فالمدرسة لها رسالة سامية في المجتمع وهي إعداد المواطن الصالح المؤهل لخدمة الوطن في كافة المجالات، وليس من مهام المدرسة إنتاج صفوة من المتعلمين من أصحاب الياقات البيضاء -كما يسمونهم- الصفوة التي تتزاحم الآن بكثرة كاثرة بشهاداتها وتخصصاتها العلمية العليا لنيل فرص محدودة في سوق العمل، بينما الجانب الحرفي فيما يتعلق بالمهن الضرورية للمجتمع تلك المهن والحرف التي تقدم خدماتها اليومية الضرورية في المجتمع.

إننا نجد هذا الجانب المهم من المهن والتخصصات، وضعه مُهلهل يفتقر للكوادر المهنية المحلية المؤهلة، ذلك أن السياسة التعليمية الخاطئة، قد حرمتنا من هؤلاء الكوادر المهنيين المؤهلين، ولا تكمن فداحة خطأ هذه السياسة التعليمية في حرمان المجتمع من الكوادر المهنية فقط، ولكن في خلق وضع صعب بالنسبة لشريحة من المواطنين، الذين لم يكملوا تعليمهم، وفي نفس الوقت لم يتح لهم التأهيل المهني المناسب لدخول سوق العمل.