◄ ثمة علاقة مُتناغمة في قضايا الحرية والوعي الذي يحقق الانسجام بينهما في الفكر الإنساني، وكذلك بين الحرية والتنمية الثقافية
عبدالله العليان
مُنذ عِدَّة أيام، وضعتُ في وسائل التواصل الاجتماعي تغريدةً عن حرية التعبير وضروراتها ودورها في التقصي والمتابعة وإبداء الرأي.. قضايا تهمُّ المجتمع، ومُتطلباته، والحقيقة أنَّ الموضوع لاقى اهتماماً كبيرا من المتابعة من رواد وسائل التواصل الاجتماعي، بأكثر من ثلاثين ألفاً من المتابعين، وجاءت التعليقات المتعددة حول مسألة الحرية وحدودها، وقضايا وتعدد الرؤى حولها، وقد قلت للبعض في التعليقات إنَّ هذه التغريدة القصيرة لا يمكن أن تستوفي كل الآراء الفكرية والفلسفية، واختلاف الأيديولوجيات حول قضية الحرية، والتيارات الفكرية المعاصرة أبدت رأيها بشأنها، وربما تحتاج مئات الصفحات، لاستقصاء قضية الحرية والاختلاف في مدلولاتها.
فالحديث عن قيمة الحرية وحدودها قضية متشعبة، والنقاش حولها أيضا ليس بالقضايا العادية التي يُمكن النظر إليها نظرة عابرة وسريعة، والكلام حولها كبير لاختلاف الميول والاتجاهات: الفكرية، والسياسية، والفلسفية؛ فالبعض ينظر للحرية من زاوية العبودية ورفع الأغلال، التي رزحت تحتها شعوب عديدة فيما مضى، وهذا ليس مجال حديثنا، وكل ينظر لها نظرة مختلفة، فالبعض ينظر لها فلسفية، والبعض نظرة سياسية، والبعض الآخر نظرة اقتصادية. فالتوجُّهات الفكرية الاشتراكية واليسار عموماً، ينظر للحرية نظرة من زاوية أن تتمتع الشعوب بالعدالة والحق بالعيش المتساوي، أو ما يُسمَّى بالحرية الجماعية، دون النظر للحرية الفردية التي يراها أصحاب هذه التوجهات مجحفة بحكم الشعوب المقهورة والمغلوبة على أمرها، وأصحاب التوجهات الليبرالية الرأسمالية -كما صاغها مفكروها الأوائل- يرون بأن الحرية هي أن تتاح للفرد أن يتمتع بالحرية الاقتصادية الكاملة، دون إعاقة هذه الحرية الفردية، مع شعار الحرية السياسية والفكرية في نفس المسار، حتى لو أدَّى ذلك إلى استغلال الطبقات الفقيرة ومحدودة الدخل؛ فالحرية أن تجعل الجميع يتحرك وفق نصيبه، دون تقييد هذه الحريات الممنوحة وتكبيلها بالقوانين من الدولة أي ترك "ميكانيكية السوق" بحرية تامة، ومع أن هذه النظرة الليبرالية -المتوحشة- لاقت نقداً شديداً في الدول الرأسمالية الغربية من تيارات سياسية وفلسفية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، إلا أنَّ الأزمات الاقتصادية أدت لإعادة النظر في الكثير من التطبيقات الليبرالية، بعد ظهور فلسفات وتيارات مناهضة من خلال الحريات الممنوحة في الغرب الرأسمالي.
ولا شكَّ أنَّ ثمة علاقة مُتناغمة في قضايا الحرية والوعي الذي يحقق الانسجام بينهما في الفكر الإنساني، وكذلك بين الحرية والتنمية الثقافية، وبين الحرية والإبداع.. فالحرية مجالها مؤثر لصياغة العقل مع ذاته، ومن هنا تظل الحرية ركيزة أساسية من ركائز النهوض والتقدم ومحاربة الفساد والمحسوبية...إلخ؛ فهي تحرِّك العقل والوجدان، وتعين على فهم الحياة واحتياجاتها الملحة في كل مجال من المجالات، والتأكيد على القيم النبيلة، بما يُسهم في التحرر من الخوف، والتطلع لما يحقق للمجتمعات روح الانسجام مع الواقع ومع الذات وتطلعاتها من أجل التطلع لواقع أكثر وعياً بالتحولات والتغيرات.
فمسألة الحرية تعد من المسائل التي لا يستطيع أحد أن يختلف على دورها وأهميتها، كقيمة إنسانية عظيمة في الفكر الإنساني، لكنَّ الإشكالية في كيفية ممارسة هذه الحرية وحدودها؟ وفي إتاحة الفرص للتعبير عنها بما هي حق من حقوق الإنسان في الحرية المسؤولة؟ وفق ما تتيحه التشريعات والنظم، فحرية التعبير تعتبر من القضايا المهمة في حاضرنا الراهن، ولا تزال المطالبات الكثيرة للحد من الإعاقات حول إتاحة المجال لحرية التعبير بما تتيحه التشريعات في هذه المسألة المهمة، وهذه القضية لا تزال تُطرح وتناقش في الكثير من مؤسسات المجتمع المدني في عالم اليوم -خاصة الحرية الطبيعية- التي هي حق الفرد بالتعبير عمَّا هو أفضل وأحق للصالح العام، عندما يجد الفرد أن ثمة عوائق وسلبيات يراها أمام عينيه وتتطلب النقد والتصويب، لكل ما هو سلبي ومُخَالِف للنظم والقوانين، لتصحيح هذا التوجه وهذا المسار بالنقد الموضوعي الذي هو حق من الحقوق التعبير الذي لا يشكُّ أحد في أهميته في إثراء الحراك الفكري والاجتماعي والثقافي، وفي تسليط الأضواء على ما هو جدير بالاهتمام؛ سواء كان إيجابيا أو سلبياً.
ولا شك أن حرية التعبير هي جزء من حرية التفكير؛ للانطلاق نحو ما هو أرحب للإنسان والمجتمع؛ من خلال إصلاح مكامن الأخطاء بالنقد البناء، والرأي الحصيف، الذي يعزز مستوى هذا الوعي بالكلمة الحرة التي هي بلا شك دعامة من دعائم الحياة الاجتماعية الناجحة والمستقرة، ولا يتأتى ذلك إلا بالنقد الإيجابي عندما تكون الحاجة إليه ضرورية وماسة.
وديننا الإسلامي يعتبر قضية الحرية منحة ربانية، وحقا طبيعيًّا للإنسان، في حدود الحرية التي لا تضر الآخرين، أو أن تسيء إليهم، ومنها حرية التعبير في استقلالية الرأي، وهذا ما جاء في الحديث النبوي: "لا يكن أحدكم إمَّعة يقول: إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساء الناس، ولكن وطنوا أنفسكم إذا اُحسن تحسنوا، وإن أساءوا أن تتجنبوا إساءتهم". فالإنسان المسلم، يعدُّ حرًّا في رأيه الذي استبان له أنه جاء نتيجة اقتناع، وبعيداً عن الضرر للمجتمع وسلامته، والعكس من ذلك أن عليه ألا يسكت على منكر رآه أو شاهده، وعليه أن يستنكره: "فالساكت عن الحق شيطان أخرس" كما يقول أحد الأمثال.
من هنا، فإنَّ حُرية التعبير المكفولة تتوافق مع هذا الحق، في محاربة الفساد، والمحسوبية، واستغلال النفوذ، وكلها تأتي ضمن المسؤولية المجتمعية، في تطهير المجتمع من السلبيات، وتشجيع النشاط الإيجابي من الأعمال والسلوكيات.
ولعلَّ تشديد حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- في خطابه الأول، بعد تسلم مقاليد الحكم، على أهمية حرية التعبير ومبادئ الحرية والمساواة، ومما قاله جلالته في هذا الخطاب: "إنَّ مما نفخر به، أن المواطنين والمقيمين على أرض عُمان العزيزة يعيشون بفضل الله في ظل دولة القانون والمؤسسات، دولة تقوم على مبادئ الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص، قوامها العدل، كرامة الأفراد وحقوقهم وحرياتهم فيها مصانة، بما في ذلك حرية التعبير التي كفلها النظام الأساسي للدولة".
وهذا هو ما نسعد به ونفخر في ظل قيادته الرشيدة.