د. مجدي العفيفي
(1)
أكان لابد أن يتفشى وباء كورونا؟!
نعم.. حتى ينتبه العالم إلى أهل الطب وفئة العلماء بكل تشكيلاتهم ودرجاتهم وتخصصاتهم العلمية والعملية، وهم في مثل هذه الظروف الكئيبة أبطال المشهد الدرامي العالمي بدافع الواجب قبل العاطفة الإنسانية، وقد حُقَّ لـ"نيويورك تايمز" الأمريكية، قبل أيام، أن تصفهم بـ"الأبطال" من العلماء والخبراء المتخصصين؛ ففي الوقت الذي يُعالج فيه الممرضات والأطباء المرضى في الخطوط الأمامية أصبح علماء الأوبئة وعلماء الفيروسات الذين أمضُوا حياتهم في قاعات المحاضرات والمختبرات أكثر مصادر المعلومات الموثوقة في عصر من عدم اليقين العميق والسياسات المتباينة والتضليل المتضخم.
(2)
أكان لابد أن يتفشى وباء كورونا؟!
أستدعِي في هذا السياق موقفا لا أنساه ما حييت.. طرفاه هما: عالم الفضاء د. فاروق الباز، والفقيه العراقي د.أحمد الكبيسي. والحدث كان كسوفًا كليًّا للشمس قبل فترة على شاطئ الخليج.. والمشهد كان في أستديو إحدى الفضائيات العربية للرصد والمتابعة والتحليل. وقد بدأ المذيع حديثه إلى الدكتور الكبيسي متسائلا عن تفسيره لظاهرة الكسوف الكلي كحدث كوني علمي؟ فإذا بالرجل يعلن بملء فمه أن مقام الحديث هنا ينبغي أن يكون للعلم.. فليتفضل العالم الباز.
هكذا تجلَّى التوقير والاحترام، بعيدا عن الشخصنة، وهذا دأب العلماء وأهل الذكر العلمي، أين هذه القيم النبيلة من الذين يعتلون أسطح الميديا، يتسكَّعون في شوارع الفضائيات ليل نهار، يتحدثون في كل شيء وأي شيء، ولابد أن يتحدثوا لمجرد الحديث، ولابد أن يجيبوا لمجرد الإجابة.
(3)
أكان لابد أن يتفشى وباء كورونا؟!
أظنُّ -وليس كل الظن إثما- أنَّ كلمة العلم هي العُليا، وكلمات ما دون ذلك ثانوية هامشية، أيًّا كان من يقولها أو تصدر عنه من رجالات سياسة أو اقتصاد أو أعمال أو إعلام... أو غير ذلك؛ فالعلم نظريات ونظرات ومناهج وحقائق ومعطيات وبراهين وأدلة وقوانين ومعادلات، بعيدا عن التوهمات من قبيل: أعتقد وأظن، وأري، وفي تصوري، وفي الحقيقة.. إلى آخر هذه المفردات من عائلة اليقين المراوغ.
صوت العلماء والأطباء والباحثين وأهل الطب خافت.. باهت.. وإن سمعناه فإننا نجده يظهر على استحياء، وقد حُق لباحثة بيولوجية إسبانية «…» أن تُعلن غضبها الإيجابي: "تمنحون للاعب كرة قدم مليون يورو شهريا ولباحث بيولوجي 1800 يورو، وتبحثون عن العلاج الآن اذهبوا لكريستيانو رونالد أو ميسي، وسيجدون لكم العلاج" ( تغريدة نُشِرت في تويتر 14 مارس 2020).
(4)
أكان لابد أن يتفشى وباء كورونا؟!
"ما أشد حماقة من تدخل الأفاعي والعقارب تحت ثيابه، وهمت بقتله، وهو يطلب مذبة يدفع بها الذباب عن غيره، ممن لا يغنيه ولا ينجيه، مما يلاقيه من تلك الحيات والعقارب إذا همت به.."؛ هكذا قال الإمام أبو حامد الغزالي، قبل ألف عام، يمتثل هذا المثال الصارخ أمامي والمرء منا يرى كل الدول والشعوب يجتاحها الرعب من الوباء الذي يجتاح العالم، وفي الوقت ذاته نرى كثيرًا من نوعية بعينها من رجال السياسة والاقتصاد مُنهمِكُون في المعارك السياسية، يتبادلون الاتهامات والتهديدات، فمنظمة الصحة العالمية منحازة، ويهدِّدون بأنهم سيقطعون عنها اشتراكهم ومعوناتهم لها، هل الفيروس صيني أم أمريكي أم صهيوني؟ من المسؤول؟ وهكذا يستعر الجدل العقيم بينما الفيروس يواصل توحشه!
ليت هؤلاء وغيرهم يتنحون قليلا ويفسحون المجال لكلمة الطب والعلم فهي الكلمة الأعلى والأصدق والمنتظرة في جنبات كوكب الأرض.. اتركوا العلماء يخرجون للعالم؛ فالجميع يتلمس أية بشرى منهم ولو ضئيلة ضآلة "كورونا" الذي يزلزل العالم بلا هوادة، ولا تجرؤ على مواجهته أعتى القوى الراهنة!
(5)
أكان لابد أن يتفشى وباء كورونا؟!
وهذا مثل من أكبر دولة في العالم.. لطالما لم يكترث الرئيس ترامب بتحذيرات وزارة الصحة والمتخصصين والجهات الأخرى ذات العلاقة؛ إذ أفادت شبكة (ABC) الإخبارية الأمريكية بأنه في أواخر يناير الماضي أن أزمة فيروس كورونا الجديد، قد تكلف الولايات المتحدة تريليونات الدولارات وتعرض ملايين الأمريكيين لخطر المرض أو الموت، وها هي أمريكا تُعلن حالة الطوارئ في الولايات الأمريكية الخمسين لأول مرة في تاريخ أمريكا.
وما يحدث من أمور سلبية من قبل كثير من صناع القرار في العالم (!!) يفعله أيضا كثير ممن يسمُّون أنفسهم برجال الدين في العالم؛ إذ يخوضون فيما لا يعرفون في التخصص العلمي الدقيق لعلوم الفيروسات والبيولوجيا، ويفيضون في الشرح ويضعون أنفسهم في مواقف حرجة هي أقرب للسخرية، والأمثلة أكثر من أن أتحصى.. ليت من لا يعرف يصمُت.
(6)
أكان لابد أن يتفشَّى وباء كورونا؟!
إنَّ الوقت الآن وقت العلم والطب وقادة الشأن الصحي في الكرة الأرضية.. وأي كلام أو حديث أو تصريح لأي مسؤول غير متخصص في الطب والصحة أتصور أن لا أحد يتقبله، بحكم طبيعة الموقف والأزمة.
ولأن الشيء بالشيء يذكر.. ثمة أكثر من علامة استفهام أثارها العالم الدكتور أحمد زويل في أحاديثه التي أدلى بها في مرحلته الحياتية الأخيرة؛ إذ قال -رحمه الله: إنَّ صراع القرن الحادي والعشرين هو صراع على العلوم التي تنتجها العقول البشرية، وأن "الحرب الحالية هي حرب عقول"، وذكر أن "المجتمع العلمي له ثلاث دعامات رئيسية؛ هي: العلم، والتكنولوجيا، والمجتمع؛ فمن العلم تنشأ التكنولوجيا والتي بالتالي تساعد على تطويره، والاثنان لا يتواجدان إلا إذا كان المجتمع يقدِّر ويدرك أهمية العلم".
(7)
أكان لابد أن يتفشى وباء كورونا؟!
تتبقَّى لدىَّ إشارة لها دلالاتها، إنَّ الأطباء بكل تشكيلاتهم خاصة في مثل هذه الظروف الكئيبة "إذا تعرضوا للخطر فالعالم كله في خطر"؛ طبقا لما قاله المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم، وفي هذا السياق أشير إلى مشهد يبعث عل الفخر، بطله الطبيب الباكستاني الأصل د. سعود الأنور، الأمريكي الجنسية، رأيته وشرائح من الشعب الأمريكي يمرون أمام منزله في ولاية كونيتيكت، يحيونه ويهتفون له على جهوده في تقدم الصفوف الأمامية في علاجهم من كورونا؛ تثميناً لاختراعه جهاز تنفس واحدًا يخدم سبعة مرضى في الوقت ذاته.
(8)
أكان لابد أن يتفشى وباء كورونا حتى ينتبه العالم إلى أهل الطب وفئة العلماء بكل تشكيلاتهم ودرجاتهم وتخصصاتهم: العلمية والعملية؟
نعم.. وألف نعم!!