علي النعماني
تشتهرُ الشعوب في جميع أقطار هذه البسيطة بما يُميزهم عن غيرهم من تراث وعادات وتقاليد توارثوها عن أجدادهم، لا سيما أن لهذه العادات والتقاليد -المترسخة في كينونة الشعوب- الأثر البالغ في التنشئة الاجتماعية والإطار الثقافي المحدِد للهويّة الوطنية التي تميز كل شعب عن الآخر. وتسعى تلك الشعوب للمحافظة على هذه المكتسبات المتأصلة فيهم، والتي يفتخرون بها دائما؛ فنجد أنَّ المحافظة على اللغة الرسمية للدولة -على سبيل المثال- بات ديدن أغلب الدول، لا يتحدثون إلا بها حتى في المحافل الرسمية، رغم عصف عولمة اللغة الإنجليزية الحاصل حاليا.
ومن الأسباب التي جعلتني أكتب عن هذا الموضوع هو تلك الإشادة المستمرة التي نسمعها من الأشقاء الذين يزورن السلطنة أو المقيمين بها، عن حسن التعامل والمبادرة في المساعدة والكرم الذي يحظون به بشكل متكرر من قبل العمانيين، ولعل الكثير منهم يسأل عن سبب هذا التميز والتفرد الذي يلمسونه جليًّا. أذكر سابقًا أن أحد الأصدقاء من الجمهورية التونسية الشقيقة قال لي يومًا وبلكنته الجميلة: "أنتوا عايشين عصر الصحابة"، استغربت من جملته هذه، والتي تحمل شرفًا رفيعًا لنا كعمانيين، فأردف قائلا تخيّل أن رجل الشرطة يستوقفني ويُقبل عليّ بوجه بشوش ثم يحادثني بكل لطف، ويمضي بعد أن أعطاني بعض النصائح، ولم يحرِّر مخالفة مع أني في موضع الخطأ، نعم تقبل عذري كوني جديدا على المنطقة. ثم أشار بيده معبرا عن جديّة ما يقول: "لو عندنا يمكن يعطيك كف ويروح ولا يسأل عنك". بعد حديث صاحبي التونسي، ظل هذا الكلام يدور في رأسي لفترة من الزمن، سمعت بعدها بسنوات قليلة الثورة التي حدثت في تونس، وكما أطلق عليه لاحقا الربيع العربي. والذي تبيَّن سببها صفعة ليست من شرطي، بل من شرطية لشاب جامعي يبيع خضار في السوق، وقالت له بلهجة قاسية: "ارحل". تذكرت حينها كلام صديقي، وأيقنت أنه صادق، مع أني لم أتصور أن يحدث مشهد كهذا أمام جمع من الناس.
التساؤل الذي يطرحه كثير من الناس: لماذا عُمان بالذات التي تتفرد وتتميز بهذا الرقي في المعاملة؟ لماذا العمانيون طيبون لدرجة كبيرة؟ ولماذا هذا الكرم الوافر الذي يغمر الضيف الزائر؟
عُمان وعبر آلاف السنين كان لها انفتاحها على حضارات متعددة الثقافات، أسهم الموقع الإستراتيجي المميز على واجهة القارة الهندية جنوبا إلى أقاصي شرق إفريقيا والتي كانت حدود إمبراطوريتها واصلة إليها، وكل المنجزات العظيمة لهذا البلد الخيِّر مدونة بحروف من الذهب في كتب التاريخ. هذا الانفتاح المتزن والمعتمد على حنكة التعامل مع الآخر، والاحترام المتبادل بين الناس وعدم التدخل في شؤون الغير ولَّد ثقافة التعامل بالأخلاق التي جُبلت عليها الأجيال المتعاقبة، ودأب سكان هذا البلد الحكيم على أن يكونوا قدوة في رقي الفكر والتنوير.
ويكفِي العمانيون شهادة خير البشرية النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- حين قال لأحد أصحابه اشتكى إليه قسوة بعض القوم، وجملته التي نعتبرها وساما على صدورنا جميعا: "لو أن أهل عُمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك". كما ذكر الإمام نور الدين السالمي في كتابه "تحفة الأعيان في سيرة أهل عمان"، في باب "فضل أهل عُمان" عن نسوة من عُمان استأذن على عائشة -رضي الله عنها- فأذنت لهن بالدخول، وسلَّمت عليهن، وقالت: من أنتن؟ قلن: من أهل عمان؛ فقالت قد سمعت حبيبي عليه السلام يقول: "ليكثرن وراد حوضي من أهل عُمان"، فأي فضل بعد هذا يلحق بكم يا أهل عُمان.
وكما هي المسيرة التي قادها قوم لهم من المآثر الطيبة والسمات السمحة، تكمل الأجيال حمل لواء الحكمة والتفاني والتعامل القائم على احترام الآخر وإكرام الضيف، وسمو الفكر والتدبُّر قبل القيام بتنفيذ السياسات التي يشهد لها العالم من أقصاه إلى أقصاه بأنها سياسة متزنة قائمة على النهج القومي لهذا الدين العظيم، وتستمرُّ المسيرة بقيادات لها من الاتزان والحكمة الشيء الوافر، ونقول ختاما رحم الله صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- الذي حافظ على نهج الأجداد، وجعل لعمان اسما يضيء بالحكمة، وسدَّد الله طريق السلطان هيثم بن طارق المعظم ووفقه لما فيه الخير والصلاح، ولتكون عُمان مِثالا للأخلاق الفاضلة الرفيعة، وهي دوما كذلك.