الكورونا يضع لبنات نظام دولي جديد 4-4

 

عبيدلي العبيدلي

منذ تفشي فيروس كورونا، وهو يوحي بتهالك النظام الدولي القائم، الذي ترتكز دعائمه الرئيسة على سيطرة نفوذ الولايات المتحدة الاستراتيجي في أعقاب مخرجات الحرب الكونية الثانية، الذي لم تغير الكثير من معالمه إفرازات صراعات الحرب الباردة بقطبيها الاستعماريين: واشنطن وموسكو، ولم يخرجه عن دوائره الأساسية تهاوي إمبراطورية الإمبريالية السوفيتية، وتفرد أمريكا بزعامة العالم، مع كل ما صاحب ذلك من تنظيرات ارتكزت على  تجديد الرأسمالية لسحنتها كي تتلاءم وقوانين ما أصبح يعرف بالنظام الدولي الأحادي القطب الذي تسيطر على مقدراته، وتقوده واشنطن.

وكما يبدو فإنَّ تفشي وباء فيروس كورونا المستجد "كوفيد -19"، وعلى النحو الذي انتشر به في ربوع العالم، بدأ يُهدد صرح هذا النظام القائم، وينذر عواصم من يسيطرون على موارده بمجيء نظام جديد آخر يزيحه من أصوله كي يحل مكانه.

هذا ما تنبأ به، في مقالة مطولة، المحرر الدبلوماسي لصحيفة "الغارديان" البريطانية بتريك وينتور، نقل فيه عن وزير الخارجية الأمريكي في عهد ريتشارد نيكسون، هنري كيسنجر، قوله "إن على الحكام الاستعداد الآن للانتقال إلى نظام عالمي لما بعد الفيروس التاجي، (مضيفًا) تحتاج الولايات المتحدة في ظل الانقسام السياسي الذي تعيشه اليوم إلى حكومة تتحلى بالكفاءة وبعد النظر للتغلب على العقبات غير المسبوقة من حيث الحجم والنطاق العالمي المترتب على تفشي الوباء".

وتأكيدا لكلامه على تأثير فيروس كورونا المستجد في رسم معالم نظام دولي جديد قادم، ينقل وينتور، أيضا، ما جاء على لسان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، بأن "العلاقة بين القوى العظمى لم تكن أبدا مختلة بهذا الشكل، (مؤكدا) أنَّ جائحة (كوفيد-19) تبرهن بشكل كبير أن على العالم إما أن تتضافر جهوده أو أن يهزمه الفيروس".

وينوه وينتور، في سياق رسم معالم النظام الدولي الجديد المرتقب إلى تلك النقاشات المحتدمة، " في أروقة المؤسسات البحثية العالمية ليس حول التعاون بين الدول، بل عمّا إذا كانت الصين أم الولايات المتحدة هي التي ستقود عالم ما بعد كورونا".

يُشارك وينتور فيما ذهب إليه بشأن وضع الكورونا لبنات نظام دولي جديد، الخبير الاقتصادي المصري مهند عدلي،  حين يقول "إذا كانت الحرب العالمية الأولى قد أدت إلى ظهور نظام عصبة الأمم، والحرب العالمية الثانية إلى نظام الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والحرب الباردة إلى نظام القطبية الثنائية سياسياً واقتصادياً وانتهائها إلى نظام القطب الواحد فإنَّ الحرب العالمية الثالثة الجارية حالياً ضد فيروس كورونا سوف تؤدي إلى نظام عالمي جديد بمفاهيم استثمارية وأطروحات تكنولوجية مختلفة اختلافاً جذرياً عمَّا كان سابقاً".

لن تكون أرقام ضحايا فيروس كورونا البشرية الضخمة، سوى أوهن المؤشرات على عدم ملاءمة الظروف العالمية القائمة لآليات النظام التي يسيرها. إذ كان تفشيه بمثابة القشة التي قصمت ظهر بعير هذا النظام. فهناك الكثير من الشواهد التي كانت من إفرازات ذلك الوباء هي التي تشير بوضوح إلى فشل مكونات النظام الدولي القائم، في توفير البيئة العالمية الصالحة الكفوءة، والقادرة في آن على توفير المنصة الملائمة لتسيير عجلة العلاقات بين أطرافه.

يتصدر مشهد تلك التحولات ذلك التفكك الذي بدأ يستشري في جسد المُنظمات العالمية التي برزت بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت معظمها من هندسة النظام الذي رسمت معالمه بدقة واشنطن كي يخدم الاستراتيجية التي وضعتها حينها. وليست الحرب بين واشنطن ومنظمة الصحة العالمية سوى قطعة الجليد التي يختفي تحتها جبل مظاهر ذلك التفكك. يرافق ذلك، تلك الاتهامات التي لم يكف الرئيس الأمريكي عن توجيهها لبكين، لتحملها مسؤولية ما تولد عن انتشار الفيروس، بسبب "تكتم الصين على موعد، ومساحة دائرة، انتشاره.

العلامة الثانية التي تكشف هشاشة النظام الدولي القائم، هي تلك الشروخ العميقة التي باتت تفكك الاتحادات الإقليمية المؤثرة في العلاقات الاستراتيجية التي تسير المنظومة الدولية، وفي مقدمتها الاتحاد الأوروبي، الذي كشفت معالم تهاويه أزمة الديون اليونانية، ووقوف دوله كل على حدة، والاتحاد كمنظمة، موقف المتفرج منها، ثم أعقب ذلك خروج بريطانيا بقرار ذاتي، حتى "قبل" فيروس الكورونا، كي يعري الوهن الذي بات يسري في مؤسساته ودوله. ثم "هل" الكورونا كي تجد دول مثل إيطاليا نفسها وحيدة باستثناء اعتذار واه خجول قدمته رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، لإيطاليا "عن تأخر رد فعل الاتحاد بشأن تفشي وباء كورونا. وجاء هذا الاعتذار، في شكل رسالة نشرتها رئيسة المفوضية الأوروبية، في الصحف الإيطالية بعنوان "أقدم لكم اعتذاراتي، نحن معكم".

ما هو أشد دلالة على تهاوي التضامن الأوروبي هو ما جرى إثر "قرار الاتحاد الأوروبي عدم إرسال معدات طبية إلى الدول غير الأعضاء". حينها انبرى الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش كي يكشف "أنه طلب من الصين جميع أنواع المساعدات حتى إرسال الطواقم الطبية، و(في الوقت ذاته) انتقد بشدة تخلي الأوروبيين عن بلاده وهم سابقاً كانوا يطالبون صربيا بعدم شراء البضائع الصينية، (خاتمًا تصريحه بالقول) التضامن الأوروبي غير موجود. الصين وحدها يمكنها المُساعدة".

هناك الكثير من الظواهر التي يمكن سردها والنظر لها على أنها مؤشرات قوية على التغيير الجذري الذي طرأ على موازين الدول العظمى، وعلى انزياح تلك الموازين من ثقلها الغربي في اتجاه الشرق. يتصدر صورة ذلك التحول، سرعة بروز الصين، الذي ربما يبدو في أعين البعض بطيئا، لكنه يتسم بالثبات، وبُعد البصيرة، ويتحلى بالصبر وطول البال. وهو أمر يعترف به مقال نشر على موقع "حلف الأطلسي" الإلكتروني جاء فيه، "لا يثير حضور الصين الدولي المتزايد اهتمام السياسيين الغربيين وحسب، بل دخل أيضاً في حسابات المُخطّطين العسكريين الصينيين. فمع أنّ الامتداد الخارجي للقوّة العسكرية الصينية لا يزال محدوداً، إلا أنَّ طموحاتها المتزايدة في هذا الاتّجاه حقيقةٌ لا يرقى إليها شك. ففي السنوات الأخيرة، أعرب المخطّطون العسكريون الأمريكيون عن قلقهم من أنْ تكون المساعدات الاقتصادية التي تقدّمها الصين إلى ميانمار وبنغلاديش وسريلانكا وباكستان، جزءاً من (استراتيجية متدحرجة) غايتها إنشاء قواعد بحرية للسيطرة على شمال المحيط الهندي وممراته التجارية الرئيسية".

نلفت هنا، عند الحديث عن دور الصين، إلى تلك الدراسة التي أعدتها وزارة الاقتصاد في الصين عن مشروع طريق الحرير الاقتصادي، ونشرها موقع "أسواق العربية".  تؤكد الدراسة على أن "الصين قامت بضخ استثمارات بقيمة 64 مليار دولار في الدول الواقعة على طول الحزام والطريق منذ 2014 حتى 2017، حيث نفذت الاستثمارات في أكثر من 50 دولة بقارات آسيا وإفريقيا وأوروبا، (كما نجحت الصين) في استقطاب استثمارات بنحو 27 مليار دولار خلال الفترة ذاتها من الدول الواقعة على الحزام والطريق وذلك بحسب وزارة التجارة الصينية، (مضيفة) أن حجم تجارة البضائع بين الصين والدول والمناطق الواقعة على طول مبادرة الحزام والطريق تجاوز 6 تريليونات دولار من 2013 حتى 2018. وأوضحت الدراسة أنَّه خلال السنوات الست الماضية وقعت الصين 173 مذكرة تعاونية مع 125 دولة، ضمت دولاً مُتقدمة ونامية، و29 منظمة دولية، موضحة أنَّ عدد الدول المنضوية حالياً في المبادرة يبلغ 69 دولة، بحسب ما ورد في صحيفة "البيان".

ويبقى ما خفي أعظم، عند الحديث عن دور فيروس الكورونا في الإسراع بـ "شروق" نظام دولي جديد على أنقاض القائم حالياً.