تهذيب ربّاني

 

محمد علي العوض

 

عند الكعبة اصطف زعماء مكة ورؤوسهم حاسرة.. يحيط بهم النبي الكريم على رأس عشرة آلاف مقاتل.. يتوجه بالسؤال لصناديد قريش: ما تظنون أنّي فاعلٌ بكم؟ فيردون: أخٌ كريم، وابن أخٍ كريم، فيجيب: اذهبوا فأنتم الطلقاء.

لم يذكر التاريخ أنّ هذا الجيش العظيم بمقاييس تلك الأزمان؛ استباح مكّة أو دكّ بيوتها؛ لأنّ حس الرحمة النبوية كان عاليا في ذلك الموقف، وأدب النفس وترويض غضبها كان عظيمًا.. هي خصال النبوة؛ ترفّع فوق كل الضغائن.. عفو عند المقدرة.. إحسان وصفح جميل وعطاء، وأنفة عن الانتصار للنفس أو هواها.

وذات التهذيب المحمدي سبقه تهذيب آخر قبل الهجرة؛ فبعد أن أغرى أهل الطائف سفهاءهم وصبيانهم بحصب النبي صلى الله عليه وسلم بالحجارة وأسالوا دم قدمه الشريفة وآذوه؛ جاءه ملك الجبال قائلا: (يا محمد أمرني ربي أن أكون طوع إرادتك، لو شئت لأطبقت عليهم الأخشبين - أي الجبلين-) فيرد الرسول بكل قوة رحيمة: (لا يا أخي، اللهم اهدِ قومي فإنّهم لا يعلمون، أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)..

فهل من بشرٍ ينظر للمستقبل مثل النبي الكريم ويقدم إشراقات الغد على أذية اليوم أو الثأر؟ لقد أدبه ربه فأحسن تأديبه – كما قال رضوان الله عليه-..

وتحضر أيضًا قصة ابن مسعود التي تقول أنّهم سافروا ذات يوم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فـغاب عنهم النبي لحظات، فلما قفل راجعا وجدهم يمسكون بفرخين صغيرين أمهما غائبة، وعندما رجعت اكتشفت أنّهم أخذوا ولديها فجزعت وأخذت تضرب الأرض بجناحيها وتعيش حالة من القلق؛ فلما رآها الرسول الكريم على هذه الحالة قال: من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها.

ويحكي ابن مسعود أيضًا أنّهم أحرقوا بيت نمل فسأل النبي الكريم: من أحرقه؟ فقلنا: نحن، فقال: إنّه لا ينبغي أن يعذب بالنّار إلا ربّ النار..

فالأنبياء من لبنة كريمة؛ تختلف مواقفهم بما فيها من مثالية و"طوباوية" عن جميع البشر.. انظر مثلا إلى رهافة حس سيدنا عيسى حين يسأله الكريم المتعال: (... يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ منْ دُونِ اللَّهِ)؟ فيرد عليه السلام بمنتهى التهذيب والتسليم: (... سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) ولم يجب سيدنا عيسى بـ: (لم أقل) بل أدان بالربوبية والتوحيد، وأسند علم الغيب لله الواحد بكلمات تنم عن عميق إسلامه وإيمانه بألا عالم للغيب إلا الله: (... إنْ كُنتُ قُلتُهُ فَقَد عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)..

وقال بعضهم أنّ من كمال أدب عيسى عليه السلام قوله: (إنْ تُعَذِّبْهُمْ فإنَّهُمْ عبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهم فإنَّكَ أنتَ العَزِيزُ الحَكيمْ).. ولمّا كان المقام مقام توبيخ وموافقة لله في غضبه، لا مقام استعطاف واسترحام؛ لم يقل سيدنا عيسى: (الغفور الرحيم) بل قال: (العَزِيزُ الحَكيمُ) أي: هم عبادك، وأنت أعلم بجرمهم، وإن غفرت لهم، فمغفرتك صادرة عن كمال عزة، وحكمة، لا عن عجز، أو سوء تصرف.

ومن مشاهد الذّوق النبوي أيضًا تأدب موسى عليه السلام مع ربه حين طلب منه الرزق بقوله: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) ولم يقل: ربي إني فقير فأعطني.. بل اعترف أولا بفضل وخير الله عليه.. فالصحة وتمام عافية البدن والبصر خير، والإيمان خير، والتوحيد خير، والعزيمة خير، والصبر خير.. كلها خيرات تستوجب الحمد والشكر.

ولكليم الله عدد من مشاهد التهذيب مع ربه لاسيما في الحوارات القرآنية كما سردت قصص القرآن، والتي صوَّرت انفعالات سيدنا موسى وحالته العاطفية والشعورية أثناء محاورته ربَّه؛ ومثالا وليس حصرًا على ذلك تأدُّبه وتشوُّقه لربه، وتعجُّله للقائه طمعًا في رضائه؛ فحين سأله ربه: "وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى" أجاب موسى قائلا: ".... هُم أولَاء على أَثَرِي وَعَجِلتُ إِليكَ رَبِّ لِتَرضَى".

وتقول القصة أنَّ بني إسرائيل قبل أن يعبُدوا العجل انطلق موسى -عليه السلام- لملاقاة ربه، بعد أن خلَّف عليهم أخاه هارون، ولما صعد موسى الجبل أخبره الخالق عز وجل بما حدث لقومه في غيابه، وبادره المولى بسؤال: "وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى"؛ أي: ما حملك على أن تسبق قومك بني إسرائيل والمجيء. ليُجيبه موسى عليه السلام: "... هُم أولَاء على أَثَرِي وَعَجِلتُ إِلَيكَ رَبِّ لِتَرضَى"..

وقيل: لما قرب موسى من الطور سبق قومه شوقا إلى سماع كلام الله. وقيل: لما وفد إلى طور سيناء بالوعد اشتاق إلى ربه وطالت عليه المسافة من شدة الشوق إلى الله تعالى، فضاق به الأمر وشقّ قميصه، ثم لم يصبر حتى خلَّفهم وراءه ومضى وحده. وقال ابن عباس: كان الله عالما، ولكن قال وما أعجلك عن قومك رحمة لموسى، وإكراما له بهذا القول، وتسكينا لقلبه، ورقة عليه؛ فقال مجيبا لربه: هم أولاء على أثري..

أمّا يوسف الصديق فقد بلغ الأدب النبوي عنده مبلغا كبيرًا، فهو أولا لم ينتقم لنفسه من إخوته أو يقتلهم على ظلمهم إيّاه بعد أن تربّع على عرش مصر وخزائنها؛ بل قابل سيئاتهم وما عاناه من خوف الجب والعبودية والسجن وفتنة نسوة المدينة وامرأة العزيز بالإحسان والغفران وقال لهم: (سوف أستغفر لكم ربي إنّه هو الغفور الرحي)..

وأشار بعضهم إلى أدب سيدنا يوسف بقوله تعالى على لسان عبده: (.. هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا. وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن) وأوردوا أنّ "يوسف لم يقل أخرجني من الجبِّ مع أنّه أخرجه من الجبِّ! لأنه لم يرغب في جرح مشاعر إخوانه. وكذلك فعل حين قال: (وجاء بكم من البدو) ولم يقل: جلبكم من بلاد الجهل والجوع والحاجة.. أو أنني أنقذتكم من الجوع والهلاك، وأيضا استدلوا على قمة تهذيب سيدنا يوسف بإيجاده العذر لإخوته بقوله: (من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي) فنسب الفعل إلى الشيطان ولم ينسبه لإخوته كي لا يجرحهم..

اللهم أحسن تأديبنا...