.. وغدا سنقول: "كورونا" مرَّ من هنا!

 

د. مجدي العفيفي

(1)

غدا.. يسدل مخرجو «مسرحية كورونا» الستار، ولن يطيلوا العرض أكثر من ذلك؛ فالذين أطلقوا الفيروس حققوا ما يريدون، وبدأوا جني الثمار اليانعة من دماء الناس وأموالهم وخوفهم ورعبهم.. "وإيه يعني فقدان مائة مليون مخلوق من بين ثمانية مليارات نسمة على كوكب الأرض؟"! فالمهم أن تمتلئ بنوكهم وصناديقهم النقدية بالأموال والأنفس والأرواح، وأن يزداد أغنياء الحروب غنى، وأن يربح تجار الأدوية أضعافا مضاعفة.. و"كله قضاء وقدر"!!

التنظيرات المعلنة والمخبوءة، والإشارات الواردة هنا وهناك بشكل خفي إلا قليلا، تشي بالكثير من علامات التعجب، وتوحِي بالمثير من الأمور الجدلية، فيتأرجح اليقين المراوغ، ويتفرق دماء ضحايا الفيروس المصطنع بين الجدليات العقيمة، وتستمر المعارك السياسة حول مصدر الفيروس متجاهلة المصيبة العالمية ليعود أصحابها سيرتهم الأولى.

غدا.. ستنتهي اللعبة، وسنقول لبعضنا البعض: "كورونا مر من هنا"، ولن يتغير شيء، والذين يستبشرون بأن العالم بعد كورونا لن يكون قبل كورونا، مغرقون في التفاؤل، ويصدقون أعضاء "حكومة العالم الخفية"!

 

(2)

هل نتذكَّر الصدمة الكبرى في الحضارة الغربية بقيام الحرب العالمية الأولى (1914-1918) والحرب العالمية الثانية (1939-1945)؛ إذ كيف لهذه الحضارة بتجلياتها التكنولوجية والعلمية تُصبح مثل القطة التي أكلت بنيها، كانت خيبة أمل عالمية، فلم تتغير السياسات إلا إلى الأسوأ والأبشع، وازداد التوحش الدولي والصراعات الباطنة والظاهرة.

وها هو فيروس انطلق من إحدى المناطق، ورأينا ولا نزال نرى الرعب والسكون والعزلة والانكماش والحجر والتحجر والجمود والتجمد، وإن كانت الاستغاثة أكبر من الإغاثة، والتمثيل أكبر من الحقيقة، والأقنعة يتم ارتداؤها من ممثلي مسرحية كورونا، ثم ينزعونها، بلا حياء أو خجل.

 

(3)

بالمناسبة، ولأن الشيء بالشيء يذكر.. هل تذكرون فيروس الجمرة الخبيثة بعد مهرجان 11 سبتمبر 2003 (الكوميديا الأمريكية إياها)؛ ذلك الفيروس الذي كانوا يرسلونه في مظاريف بريدية مغلقة!

 

(4)

وإن تعجب، فعجب أن ترى المسحة الرومانسية الإنسانية (!!) في عز عنفوان الأزمة الراهنة من قبيل: ‏الصين أرسلت شحنات أقنعة طبية لإيطاليا، وكُتِب على الصناديق مقطع من قصيدة رومانية: "نحن أمواج من ذات البحر، أوراق من ذات الشجرة، أزهار من نفس الحديقة".

مثلما حدث عندما تبرعت اليابان للصين واقتبست من قصيدة صينية: "لدينا جبال وأنهار مختلفة، لكننا نتشارك ذات الشمس والقمر والسماء".

هل لهذه السماحة والطيبة والإنسانية ظلالها وأصداؤها على أرض الواقع؟ أم هي مثل أحوال مدينة الميديا الفاضلة (لاسيما الفيسبوك والواتساب وتويتر وماسنجر) حيث كل شيء رائع وجميل ومثالي، وتحت الأقنعة نيران على طريقة الوجودية الفرنسية «الآخر هو الجحيم».

 

(5)

الخطاب المجتمعي يتسم بالعاطفة الجارفة الشامتة أحيانا لكارثة كورونا؛ إذ يستقطب البسطاء الذين يتعلقون بأي شيء، على رأي المثل الشعبي "الغريق يتعلق بقشة"، وهي مجرد إسقاطات لما يعتمل في بعض النفوس -مع أن الأزمة لا علاقة لها بذلك، ولا يجوز ولا ينبغي، ومن ثم تشعر وكأن هناك شماتة، وهذه ليست من الأخلاق الإنسانية، في هذا السياق، أرسل لي قارئ كريم رسالة تحمل "بوست" (انتشر منذ أيام بأسرع من انتشار كورونا نفسه) بعنوان "لا تلعنوا كورونا.." لماذا..؟ إنه يقول: لا تلعنوا كورونا؛ فلقد أعاد هذا الوباء الفتاك البشرية كلها إلى إنسانيتها، إلى آدميتها، إلى خالقها، إلى أخلاقها، ويكفيه فخرا أنه أغلق جميع البارات والملاهي والكابريهات ونوادي المجون والرقص والشذوذ والقمار ودور الدعارة والبغاء وبلاجات العري حول العال.. وإنه جمع العوائل ثانية في بيوتها بعد طول تفرق وفراق.. وأنه أوقف القبل والتقبيل بين الجنسين والجنس الواحد.. وأنه دفع منظمة الصحة العالمية إلى الاعتراف بأنَّ تناول الخمور كارثة وعلى من لم يُعاقرها يوما أن لايفعل ذلك أبدا (هكذا يزعم!).

ويضيف صاحب الرسالة: يكفيه فخرا أنه علم البشرية كيف تعطس، كيف تسعل، كيف تتثاءب (هكذا!!) وأنه حوَّل ثلث الإنفاق العسكري حول العالم إلى المجالات الصحية بدلا من العسكرية.. ودفع وزارات ومديريات الصحة العربية إلى حظر تدخين النارجيلة وإغلاق كافيهاتها، وأنه حد من الاختلاط المذموم بين الجنسين، يكفيه أنه أذاق وزراء ورؤساء دول بعضها كبرى وعرفها معنى الحجر والحجز وتقييد الحرية، ودفع الناس إلى الدعاء والتضرع والاستغفار وترك المعاصي والمنكرات، وأنه قلل إلى أدنى مستوى معروف من سموم المصانع التي لوَّثت أجواء الأرض، قتلت غاباتها، لوَّثت بحارها ومحيطاتها، أذابت جليد قطبيها، غيرت مناخها، وسعت ثقب الأوزون في سمائها وأماتت الأحياء حول الكرة الأرضية وأصابتها بمقتل...(!).

وفيها أيضا: إن ما تعيشه البشرية حاليا يشبه أجواء الحرب العالمية الأولى وانتشار الإنفلونزا الإسبانية حين طغى الإنسان وتجبر، وظن نفسه أنه قد خرق الأرض وبلغ الجبال طولا؛ فكان لزاما أن يؤدب وبحضرة خالق الكون أن يتأدب.. اليوم فقط أدركت -عمليا- كيف يمكن للبلاء الرباني وبأضعف جندي من جنده أن يكون خيرا للبشرية لا شرًّا لها.. فلا تلعنوا كورونا لأنَّ البشرية بعده لن تكون كما كانت قبله إطلاقا (!!!).

هكذا.. يختزلون الكارثة العالمية في هذا الأفق الضيق جدا، والفقير فكريًّا وكونيًّا..! وقد غلَّبوا اللامعقول على المعقول، وألغوا مبدأ السببية، وهو مبدأ منطقي وعقلاني، ومن ثم يتخبط التفكير السوي ذات اليمين وذات الشمال إلى أن يتلاشى فتحدث البلبلة وهو ما نراه الآن، وستنكشف حقيقته غدا.

 

(6)

ماذا تقول اللحظة الكورونية الراهنة؟

هذا السؤال صار مُتأخرا الآن لدى اللاعبين على مسرح كورونا، إنهم مشغولون بـ"ما بعد كورونا".

فقد استطاع هذا الفيروس أن يخرج ثعلب السياسة الأمريكية د. هنري كيسنجر وزير الخارجية الأسبق، وأحد أشهر منظري النظام العالمي ومؤسسيه الذي ينضوي تحته العالم منذ عقد السبعينيات من القرن الماضي، وقد تهرأ الآن باعتراف كيسنجر ولم يعد يصلح بسبب الفيروس الكوني العابر للقارات والأجسام والأفراد والدول والشعوب والزمان والمكان والإنسان، والذي ينتقي من ينفذ فيه من سكان كوكب الأرض (!!).

رأى وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، في مقالٍ له بصحيفة وول ستريت جورنال -وترجمته جريدة "الرؤية"- أنّ "جائحة كورونا ستغيّر النظام العالمي للأبد"، وما ذلك بصحيح على إطلاقه، إنه اعتراف من كيسنجر بهزيمة القوى العظمى في إدارة العالم؛ فهو نفسه غير قادر على النفاذ برؤيته إلى الغد؛ إذ قال "إنَّ الجدلَ الدائر حول مرحلة ما قبل كورونا يُعيق بصورة رئيسية ما يجب القيام به في الوقت الراهن".

(ولهذا مقال قادم، فما قاله ذلك "الثعلب العجوز" لا يمكن أن يمر مر الكرام..!).

 

(7)

تُرى هل من قبيل المصادفة أن تتزامن أطروحة كيسنجر التي أشرت إليها بسرعة، مع الاستقصاء الذي قدمته مجلة فورين بوليسي الأمريكية، حول شكل العالم ما بعد كورونا، واستقطبت آراء 12 مفكرا وأكاديميا من أكثر من جهة في العالم.. ؟؟؟

سؤالي أيضا غير بريء...!

وإلى الملتقى إن شاء الله.