القوة الناعمة والموارد لتجاوز التحديات

يُوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

تُمثِّل القوة الناعمة -والتي عرفها الباحثون السياسيون على أنها القدرة على التأثير ونسج العلاقات  استنادا للإرث السياسي وسمعة البلد- إحدى أبرز ثمار المرحلة المنصرمة في عهد السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- التي أوجدت مكانه متفردة لعُمان، تمثلت بمواقفها في الحياد الإيجابي والنائ بالنفس عن حالة الاستقطاب الإقليمية والدولية، والقدرة على إخماد الفتن ورأب الصدع في الخلافات بين الدول وتحقيق الاستقرار والسلم في منطقة ملتهبة.

ومن واقع حضوري للعديد من المؤتمرات والورش العالمية، دائما ما يتحدث الباحثون والمتخصصون في الأوضاع الجيوسياسية في المنطقة حول تحدييْن رئيسسيْن يُواجهان السلطنة؛ الأول: في المرحلة السابقة؛ حيث يكمُن في خلافة الحكم، والثاني: في التعامل مع التحدي  الاقتصادي والمالي الذي بدأت بوادره في الظهور منذ 2014م. ولقد نجحت عُمان بإرث سلطانها الراحل -طيب الله ثراه- وحكمة الأسرة المالكة وأبنائها، بتجاوز التحدي الأول وتحقيق سلاسة ووعي منقطع النظير في عملية انتقال ولاية الحكم التي تمَّت بإتقان تام إلى حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله وسدد على طريق الخير خطاه- وهنا يبقى التحدي الثاني الأكثر إلحاحًا جراء الصدمة المزدوجة المتمثلة بفيروس كورونا وتدهور أسعار النفط إلى مستويات متدنية؛ مما فاقم حدة الأزمة المالية التي تعانيها السلطنة، والتي من أبرز مظاهرها: تسارع وتيرة الدين العام وتدني التصنيف الائتماني وضعف أداء القطاعات غير النفطية وزيادة أعداد الباحثين عن عمل.

والتغلُّب على التحديات القائمة لن يتأتى بدون توظيف بعض من رصيد القوة الناعمة لعمان، والتي مكنتها من لعب دور محوري في تسهيل علاج الكثير من الخلافات المستعصية، وتمكنت من الحفاظ على استقرار المنطقة؛ من خلال دورها كوسيط متوازن وموثوق في البيئة الجيوسياسية الإقليمية والعالمية. وفي ظل التحديات الماثلة، فإنَّ قدرة عُمان على لعب هذا الدور في المستقبل على المحك. ويهم الكثير من القوى المؤثرة كالولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي... وغيرها من القوى أن تظل عمان قادرة على ممارسة دورها الإستراتيجي كبوابة دبلوماسية في المنطقة؛ الأمر الذي لن يتأتَّى بدون قدرة عُمان على التغلب على التحدي الاقتصادي والمالي.

وهنا بيت القصيد، وأنه يجب التعامل بروية وحكمة وتبصُّر من أجل تجاوز الأزمة الاقتصادية، ويحتم على عُمان التحول من النموذج الاقتصادي والمالي المعتمد على الحكومة وإيراداتها النفطية، والتي تتعرض إلى ضغوط في جانبيْ العرض والطلب، بالتحول إلى نموذج إنتاجي يتيحه التنوع القطاعي والمزايا النسبية التي تتمتع بها السلطنة؛ الأمر الذي لن يحدث إلا بالاعتماد على الإمكانيات والخبرات والمعرفة الداخلية، وهناك حاجة ملحة لاستجلاب المعرفة والتكنولوجيا والمهارات والخبرات، التي تساعدنا على سبر أغوار المستقبل، وتعظيم الاستفادة من الجاهزية والموارد الطبيعية والمكانية للسلطنة.

وهنا.. يأتي دور فتح الأبواب وتسهيل الاستفادة من القوة الناعمة، والأخذ بالأسباب لاستكمال  ما ينقصنا من عناصر ضرورية؛ من خلال تعزيز مبدأ المنفعة المتبادلة التي باتت محركا أساسيا في العلاقات الدولية، والحديث هنا عن فوائد مشتركة وفتح أسواق وتدفق سلع واستثمارات وتجارب وخبرات؛ فالسوق العماني لديه إمكانيات هائلة لم تُستغل بعد، ولن نتمكن من استغلالها بالكامل ضمن السياق الراهن بمفردنا. فمن خلال التعاون القائم على الإدارة الذكية للموارد والعلاقات، والتي تقوم على تجميع عناصر الإنتاج  من دول مختلفة، والتخطيط للتنمية بشكل فعّال وتحقيق تحولات نوعية وكمية، فإن الدول لا تستطيع أن تعتمد على المصادر المحلية وحدها.

فمن خلال الاستفادة من القوة الناعمة، وتوظيف العلاقات على نحو إيجابي، يُصبح في الإمكان استخدام موارد العالم وإدارتها وصولا إلى منتج نهائي بمواصفات عالمية.. فعلى سبيل المثال، يُمكننا استخدام الأموال من إحدى الدول والقوى العاملة من دولة أخرى إلى جانب القوى العاملة الوطنية، والمواد الخام اللازمة للإنتاج من دولة ثالثة، لتكتمل بذلك عناصر العملية الإنتاجية، ثم تسويق وبيع المنتج النهائي في دولة رابعة؛ من خلال ما يسمى بـ"الإدارة الذكية للموارد والعلاقات الدولية". ومن المؤكد أنَّ ذلك لا يتحقق تلقائيًّا، وإنما لابد من التصدي لتحدي على قدر كبير من الأهمية يتمثل في التعامل مع الحلقات الضعيفة للتعاون والتنسيق، خاصة في الجانب الحكومي والدولي، واستثمار قوة عمان الناعمة، وتحويلها إلى منافع اقتصادية متبادلة؛ بحيث تكون قادرة على التعامل مع المتغيرات المختلفة وفق مبدأ استثماري متبصر يعمل على استيفاء متطلبات التحولات في نموذج التنمية العمانية، وربط الاستثمارات مع الحاجات الفعلية لها. ولتعظيم الاستفادة من المكانة الرفيعة للسلطنة بين الأمم لابد من تضافر الجهود والعمل الدؤوب والاستفادة من تجارب الآخرين؛ بما يتناسب مع الأوضاع المحلية ومتطلبات التنمية.

وإدراكاً لجميع التطورات والمستجدات التي تشهدها الساحة المحلية والإقليمية والعالمية، وتماشيا مع رؤيه عمان 2040، التي تركز على تنمية القطاع الخاص والاستثمار والتعاون الدولي؛ تُمثِّل الاستفادة الذكية من النجاحات المشهودة للقوة الناعمة للسلطنة ضرورة تنموية لربط الموارد والمقومات وجذب رؤوس الأموال والتكنولوجيا والمعرفة، والوصول إلى الأسواق، والتي تمثل عناصر ضرورية لتعظيم الاستفادة من الجاهزية، والدفع نحو مزيدٍ من التنويع الاقتصادي وخلق فرص العمل للشباب، وتعزيز القدرة التصديرية للبلاد وجذب الاستثمار الاجنبي. لاسيما وأنَّ الإنجازات المحققة خلال الحقبة الماضية توفر أرضية صلبة للانتقال إلى طور ثاني من التنمية فرضته مستجدات كورونا، وتدهور أسعار النفط.. بما يعود على تحريك عجلة النشاط الاقتصادي في البلاد، والمساهمة في تنويع القاعدة الإنتاجية، وتوفير فرص العمل للمواطنين، ودعم وتنمية قدرات القطاع الخاص.. إن منعة عُمان والحفاظ على قوتها الناعمة يحتم علينا التعامل مع المعطيات بفكر مختلف يحقق مكاسب وتوازنات مشتركة ويمكن للقوة الناعمة أن تُشكل مفتاحَ الحل أو أبرز آليات الوصول إليه.

تعليق عبر الفيس بوك