من أي بحر نصطاد مستقبلنا؟

 

د. سيف بن ناصر المعمري

 

نحن أبناء اليوم الذي يقول لنا أشياء مهمة بطريقة مُختلفة عن تلك التي عرفناها بالأمس؛ فاليوم يقول لنا الأشياء جملة واحدة وليس بالتجزئة كما عهدنا من قبل؛ وعلينا أن ننصت ونتعلم ونعي ونتحرك، ونعيد تشكيل واقعنا في ضوء ما نعرف اليوم؛ أول هذه الأشياء هو أنَّ النفط لم يعُد مصدرا يُمكن أن نعول عليه فأسعاره ومخزونه يتراجعان بطريقة متسارعة، وذلك يُؤثر على اقتصادنا وحياتنا بدرجة كبيرة، أما الشيء الثاني فهو أنَّ أزمة كورنا تقول لنا لما نضع سلة غذائنا واحتياجاتنا الضرورية تحت رحمة الخارج سواء سلعا أو استيرادا، أما الشيء الثالث وهو مُرتبط بما تقدم وهو كيف نعود إلى قطاعاتنا الإنتاجية الطبيعية التي يمكنها أن تحقق لها هدفين؛ الأول تؤمن لنا احتياجنا الداخلي والثاني هو تنويع قاعدة الاقتصاد التي أعجزتنا لخمسة عقود ولم ننجح حتى الآن في تحقيقها، لأسباب لا يستطيع أي أحد أن يفهمها، أمام هذا المشهد نقف أمام فرص وبدائل تحتاج إلى أن نناقشها بطريقة شفافة.

إنَّ الانطلاق في مناقشة هذا الموضوع لابد أن يكون من مسلمة وهي أننا بلد ثري بالثروات الطبيعية غير المستثمرة بالطريقة التي تستحقها، خاصة القطاع الزراعي وقطاع صيد الأسماك والصناعات التي يمكن أن تقوم عليهما؛ قد يكون أحد الأسباب هو أنَّ النفط وعوائده صرفنا عن هذه القطاعات أو أن خطط واستراتيجيات استثمارها لم تحظ بالاهتمام والدعم، أو لم تتوفر لها القيادة المناسبة لكي تحقق أهدافها، من يُلاحظ حركة الاستيراد المتواصلة والتصريحات المرتبطة بها خلال الشهر الحالي والسابق المرتبطة بالخضروات والفواكه، وأيضاً شكوى المزارعين من صعوبة تسويق منتجاتهم داخل بلدهم يُعطينا صورة عن حالة القطاع المليئة بالتحديات، نحاول أن نفهم هذه المعطيات مع الأرقام الصادرة من الجهات المعنية التي تحمل معنى آخر، فالإحصاءات الصادرة عن وزارة الزراعة والثروة السمكية تأكد أنَّ الاكتفاء الذاتي لمعظم السلع الغذائية بلغ (79%) وهي تشمل التمور والخضر والفاكهة والحليب واللحوم الحمراء ولحوم الدواجن والبيض والعسل، وأن ترتيبنا في الأمن الغذائي هو الثالث خليجياً وعربياً والثامن والعشرون عالميا، وهي نسبة كبيرة تبعث على الاطمئنان لولا ذلك الهلع في الاستيراد الذي يصاحب أي أزمة كما هو الحال في الأزمة الحالية، ومن ناحية أخرى يذكر التقرير نفسه أن قطاع الثروة السمكية لا يسهم إلا بـ 99 مليون ريال عماني في الناتج الإجمالي لعام 2018، وهو مبلغ متواضع جدًا مقارنة بالثروة السمكية العمانية وطول سواحلها، هذا على الرغم من التوسع في الاستزراع السمكي، وهي إحصاءات تطرح أسئلة أكثر مما تقدم إجابات حول هذه القطاعات وتبعث على الحيرة في بلد يسعى إلى تنويع قواعده الإنتاجية؛ ومن هذه الأسئلة ما نسبة الاكتفاء الفعلية التي يوفرها القطاع؟ وما المنتجات التي يوجد بها عجز؟ وما نسبة المساهمة الممكنة لهذا القطاع في الناتج الإجمالي؟ ولم لا يمكن تحقيقها حاليا؟ وما التحولات التي يمكن أن تحدث في منظومة التعليم والتدريب وتأهيل الموارد لخدمة هذه القطاعات؟

 

هذه بعض الأسئلة من مجموعة كبيرة من الأسئلة تحيط بهذه القطاعات المهمة، والوزارة القائمة عليها وخططها واستراتيجياتها وإلى أين وصلت؟ هل حققت أهدافها أم أخفقت؟ لأنَّ الرؤية الواضحة سوف تُساعدنا في بلورة رؤية مستقبلية بعيدة عن الخطابات الهلامية التي نحاول فيها أن نربط مستقبلنا بقطاعات معقدة تكنولوجية وصناعية ونحن لا يتوفر لنا القاعدة المتينة لها سواء التحتية أو الفنية، لأنَّ المنطق يقول لنا اتجهوا إلى قطاعاتكم الممكنة وأعملوا على استثمارها بتطويرها بالتقنيات اللازمة، ولنا في الدول الكبرى التي تتفوق علينا في هذه الإمكانات مثال فهذه فرنسا دولة أوروبية متقدمة ولكن القطاع الإنتاجي الرئيسي فيها هو الزراعة فهي تعد أكبر مصدر زراعي في العالم، وهذه تشيلي تحتل المركز السادس من أكثر عشر دول مصدرة للأسماك وطول سواحلها يمتد إلى 4023 كليومتر أي أنها تقريبا مساوية لطول سواحلنا، بل إن فيتنام وتايلند تحتلان على التوالي المرتبة التاسعة والثامنة في القائمة وهما تعتمدان على الاستزراع السمكي، فلم مساهمة القطاع لدينا لا تتعدى (99مليون ريال) فقط، لم لا تكون الأسماك الطازجة محركا للطيران العماني، كما هي محرك للطيران التركي الذي يشحن الأسماك الطازجة يومياً إلى العديد من الوجهات من ضمنها الولايات المتحدة الأمريكية، حيث من المتوقع أن تبلغ قيمة الصادرات السمكية التركية 1.5 مليار دولار بحلول عام 2023، لا تزال نصف كمية الأسماك المصدرة من داخل أرضنا لا تخرج من الخليج، أما البقية فهي تذهب لأسواق محدودة هي البرازيل وتايلند وبنغلاديش.

 

إنَّ الأزمات عادة تدفع الدول والمجتمعات إلى العودة إلى بدائلها غير المحسوبة عادة؛ وأتصور أن هذا هو وقت إعادة تنمية قطاع الزراعة والثروة السمكية بطريقة مختلفة، وهو بداية لإصلاح هذه القطاعات التي تعرضت إلى تدهور كبير في العقود الماضية نتيجة أسباب مختلفة؛ ويمكن الانطلاق في ذلك الإصلاح من ثلاثة الاستثمار والتقنية والتعليم وهي ثلاثية لا غنى عنها عالميًا اليوم في النهوض بهذه القطاعات؛ فجلب الاستثمارات ينبغي أن يوجه جزء كبير منه لهذه القطاعات، والنقاشات المُرتبطة بتوظيف التكنولوجيا لابد أن توجه إلى هذه القطاعات، ولابد من التوسع في برامج التعليم المحدودة حالياً المُرتبطة بهذه القطاعات، وويل لنا إن لم نصغ إلى ما نعيشه اليوم، وويل لنا إن لم نفهم إلى أين تتجه البوصلة لكي نولي شطرها اهتمامنا حتى لا نضل كثيرا وبعيدا عما يجب أن نهتم به ونزرع فيه آمالنا ومستقبلنا، وكما يصفنا العالم بالحكمة في التعامل معه علينا أن نسعى لكي يصفنا بالحكمة في التعامل مع مواردنا وثرواتنا لأننا مثار استغرابه حتى الآن.