حمد بن سالم العلوي
إنَّ الزَّمن الذي نعيشهُ هذه الأيام، يشهدُ على جشعِ الأمم وقسوتها على بعضها البعض، وانحطاط كبير في القيم والأخلاق الإنسانية، فهل تصوُّرتم أنَّ الدول القوية تُقرصن إرساليات من الكمامات الطبية وهي متجهة إلى دولة أخرى؟! تُرى ماذا سيفعلون بالعالم لو أنَّ المواد الغذائية قد نفدت من أسواقهم؟ شخصيًّا لا أعتقد أنهم سيموتون جوعاً دون الحصول عليها وهم يرونها، تقديراً واحتراماً للقيم والمبادئ الإنسانية!! وماذا سيكون عندئذ مصير الدول الصغيرة مثل بلدنا؟! وهي تعيش على استيراد لقمة العيش من الخارج!! لا شك أن أمثالنا ممن سيكون الأقرب للموت جوعاً، فإذا كانت شحنة دوائية تم الاتفاق على شرائها من الصين، ولكن جهة ما سبقتنا إليها، فذهبت عنا هكذا في غمضة عين!! ذلك ما قاله معالي الدكتور وزير الصحة في حديثه لوسيلة إعلام محلية، فهذا نموذج، وقس على ذلك أمورًا كثيرة.
إذن؛ فلنعد بالنظر باتجاه الوطن، ونحوِّل عُمان إلى خلية نحل كبرى، ونحن إذا نظرنا إلى الزراعة، فإننا لا نبتدع شيئاً جديداً علينا، فقد كان 80% من الناس قبل العام 1970م يعملون في الزراعة والرعي، و20% يعملون في صيد السمك والتجارة، وقد كان الناس يسمون السنوات التي انشغل العالم فيها بالحروب الكونية بـ"سنوات الجوعة"؛ لأنَّ وقتها توقف الاستيراد والتصدير؛ حيث كان العُمانيون يصدرون التمر والليمون المجفف إلى الهند والبصرة، ويستوردون الأرز والقهوة والسكر، إذن والظروف قد تغيرت إلى الأحسن، وعُمان التي كانت تعتمد على الدواب في نقل الحصاد والزراعة والتجارة، أصبحت اليوم تمتلك طرقًا مسفلتة غطت مسافات تقدر بآلاف الكيلومترات، وتمتلك وسائل نقل حديثة -كانت برية أو بحرية أو جوية- وكذلك معدات زراعية متطورة، وتتوافق مع النسبة والتناسب للحياة العصرية.
وإذ أدلل على التكامل الزراعي والاقتصادي والاجتماعي، وذلك بقرية حيل العرْب، فإني أتصورها كخلية واحدة ضمن شبكة من الخلايا الكثيرة المتداخلة والمتكاملة في مملكة النحل، ففي هذه القرية الصغيرة الوادعة بين أحضان الجبال "وهي نموذج لقرى مشابهة لها تنتشر على الجبال العُمانية الكثيرة"؛ حيث يُكابرُ الإنسان الطبيعة القاسية، فيروِّضها ويجعلها طيِّعة له، فحتى يزرع الساكن على تلك المرتفعات القاسية، فعليه أن يأتي بالحصى على رأسه ويرفع به الجدران، ثم بعد ذلك يطمر خلفها بالتراب الذي يجلب بنفس الطريقة، ليكوِّن مساحات للزراعة على شكل مدرجات، ثم يؤتى بالسماد من مكان بعيد بطريقتين؛ إما محمولاً على رؤوس البشر، أو على ظهور الدواب، وأثناء التمهيد لوصول الماء فقد يعترض ساقية الرَّي صخر صلد، والإنسان يكابد ليشق الأفلاج من مسافة قد تطول، أو تقصر حسب مصدر المياه، لكن لا يكون ذلك الصخر الأملس الصلد عائقاً أمام الإصرار والعزيمة القوية، فإما أن يعلِّق الساقية بفلج مصنوع من مادة الصاروج (الجص) أو يعبر به الأودية بنظام "غراق فلاح" أو ينخرُ في الصخر الصلد العنيد، فيبرده بالحديد ويجوفه، فيصنع المعجزات بوسائل جد بسيطة، ويقف المرء اليوم مذهولاً بما يرى أمامه من معجزات، وذلك قياساً على هذا الزمان.
(ملاحظة: نظام الرَّي في القرى الجبلية، يستخدم فيها الأفلاج السطحية المكشوفة)
ففي قرية حيل العرْب هذه محل المثال؛ حيث كان يسكن مجتمع قروي قليل العدد، كان الناس يشكلون أسرة واحدة تتجلّى أكثر فأكثر وقت الزراعة الأعمال الأخرى التي تحتاج إلى أكثر من شخص واحد.. كالبناء مثلاً، فما على صاحب الشأن إلا أن يُعلن عن نيته، وعندئذ سيجد أهل القرية كلهم معه: الكبير والصغير والرجل والمرأة؛ فعلى سبيل المثال: زراعة الصيف ويقصد من ذلك زراعة "القمح"، وله أصناف ومسميات عديدة ومنها الشعير، ولكن هذه الزراعة تمرُّ بأربع مراحل؛ الأولى: التهيئة والزراعة، ثم المرحلة الثانية: إزالة الشوائب وتسمى "الحلاله"، فالمرحلة الثالثة: الحصاد وتسمى بـ"التصييف"، والمرحلة الرابعة والأخيرة: استخراج القمح وتسمى "الدُّوس" على أرض دائرية رصفت بالجص أو الطين وتسمى بـ"الجنور"، وفيه يتم استخلاص القمح من السنابل وتعرف "بالقصاصيد"، ومفردها "قصُّود"، وكل هذه الأعمال تؤدَّى جماعية ويدوية.
والزراعة ما كانت لتنتهي بانتهاء موسم ما، حتى يبدأ موسم آخر؛ فمثلا نخلص من زراعة القمح، نبدأ بزراعة البصل والثوم وبعض البقوليات والفندال والمزروعات الأخرى، فكنا نَجد فائضاً في البصل والثوم، فنذهب به نسوقه في ولاية صحم في الباطنة، ونتجه به مباشرة إلى شخص معين في السوق، فيسعِّر الشحنة ويأخذها بالكامل؛ فلا نذهب بالمبلغ إلى البنك للادخار، وإنما نصرفه في سلع نحتاجها وقد حُدِّدت سلفاً، وعلى رأسها: الأرز والقهوة والسكر، والسمك المجفف والمالح والقاشع، والعومة وهذا النوع نخصُّ به البقرة، وهي تمثل بئر نفط مقارنة باقتصاد اليوم، وتعد البقرة جزءًا أساسيًّا في كل منزل؛ فمنها الحليب والسمن واللبن، والفائض من السمن يباع، وله سوق رائج ورابح، وكل من يمتلك بقرة في بيته تبدو عليه مظاهر شكر النعمة كل يوم جمعة، ففي ذلك اليوم يذاب الزبد ويحوَّل إلى سمن، ويستفاد من القشدة التي ترافق تذويب السمن في عمل وجبة العصيدة، فيصل فيضها إلى الجيران.
تُرى، هل سنرى بعدما تضع هذه الجائحة أوزارها تَغيُّراً تجاه لقمة العيش وستكون صناعتها بأيدينا؟! وهل ستباشر حكومتنا الرشيدة مع إعادة الهيكلة الإدارية، العناية بالشق الزراعي وإنعاش القرى والبلدان؟! وذلك حتى تهل هماليل خيرها على البلاد والعباد بالنفع الكبير، وكذلك دعم ترميم الحارات القديمة، وتحويلها إلى مزارات سياحية ونُزُل للناس، بحيث تقوم كل قرية وبلدة بإدارة اقتصادها بنفسها، وتخفيف المزاحمة على موازنة الدولة بمرور الزمن، فالدعم الحكومي اليوم سيتحول في المستقبل إلى دعم لها، والمطلوب التخفيف من عقد الضوابط غير الضرورية، وإعطاء حرية أكبر للمواطن الذي يعمل وينتج، ومنع الجشع والبيروقراطية والاحتكار، وتسريع الخدمات؛ وعلى رأسها: الكهرباء والطرق والهاتف والماء.
وهذه أمور قد عقَّدها التخصيص؛ فصارت الشركات تبحث عن الربح السريع، ولا يهمُّها المواطن كثيراً، ولا التنمية العامة للبلاد، ودليلي على هذا: التلكؤ المستمر في تنفيذ المشاريع التنموية؛ فالآن تمرُّ ثلاث سنوات على أول طلب لتوصيل الكهرباء إلى قرية حيل العرْب، ولكن لا من مجيب؛ فبذلك يعرقلون عودة الناس إلى قريتهم، والتي وصلها الطريق مؤخراً، لأنه بيد الحكومة، ولو خصصت مشاريع الطرق لأصبحت كارثة.
اللهم هذا دعاء عبدك وأنت شرعت لنا أن ندعوك؛ فمنك الاستجابة يا رب العالمين.. اللهم ارفع عنا الوباء والضراء، وأغثنا يا خير مغيث.