د. عبدالله باحجاج
الآن.. وقبل أكثر من أي وقت سابق أو قادم، بل، ونحن لا نزال في منحنى صعود فيروس كورونا، ينبغي أن نغيِّر البوصلة نحو النجد لتأمين سلة غذائنا من الداخل دون الاعتماد على صديق أو شقيق؛ فما صرح به أمس الأول معالي الدكتور وزير الصحة من تنصُّل في آخر لحظة عن بيع 200 جهاز تنفسي اصطناعي لبلادنا، يعطينا مبررا جديدا يضاف للمبررات الأخرى التي تناولناها في مقالات أخيرة تحتم من الآن صناعة الاكتفاء داخليا في أساسيات حياتنا البشرية.
طبعا، وعلى رأسها الغذاء، وهذه قضية قديمة/جديدة، ولو فتحنا ملفها الآن، لما خرجنا من قضية المساءلة والمحاسبة لسنوات كثيرة، بدءًا من التخلص من الأراضي الزراعية وتحويلها إلى أغراض تجارية وسكنية، وكم صرخنا، فلم تلقَ صرخاتنا آذانا صاغية، ومرورا بسلبية أدوار الفاعلين الذين تعاقبوا على مسؤولية القطاعات الزراعية والسمكية والحيوانية في بلادنا، وانتهاءً بمحاربة كل مجتهد فعال اقتحم الصحراء وزرعها خضراوات وفواكه وحشائش.
رُبما علينا أن لا نفتح الماضي، ونهتم بالحاضر في ضوء دروس كورونا، وما ينتظرنا من تحديات مقبلة في مجال الغذاء، وكذلك تحضيرا لمرحلة ما بعد كورونا، وأول خطوة استدراكية عاجلة، هي الحفاظ على ما تبقى لنا من أراضٍ صالحة للزراعة في كل أنحاء البلاد، وتحصينها بقانون أسمى يجرم المساس بها، ويشدد من عقوبات الردع.
وثاني خطوة: البدء فورا بخطوة الألف ميل، رغم أننا لن نبدأ من الصفر؛ فهناك جهود بُذلت، وتحقِّق نتائج إيجابية، يمكن البناء عليها؛ وذلك بعد أن انكشفت لنا الكثير من الحقائق؛ لعل أبرزها: أنَّ أماننا وأمننا يتوقفان على حجم ومستويات اكتفاء بلادنا الداخلي بالدرجة الأولى في نواحٍ أساسية وإستراتيجية؛ وأبرزها كذلك: انكشاف دعاة المنع والمعرقلين للنهضة الزراعية في بلادنا، وبروز خلفيات المنتفعين من عمليات استيراد سلة غذائنا من الخارج، انكشفَ لنا الخاسرون من رجوعنا للأرض؛ لذلك لا نستبعد وقوفهم بكل نفُوذهم وسحرهم ضد النهضة الزراعية في البلاد قديما وحديثا.
لكن.. ماذا بعد هذا الانكشاف الآن؟ آن الأوان -وسريعا- لأن نغُير هذا الواقع بصورة جذرية، وفي إمكاننا ذلك، والإمكانية متوفرة بصورة آنية، ولا تحتاج تعقيدات ولا بيروقراطية، ولا دراسات.. مثل ما بدأنا نتحمل المسؤولية كاملة من داخلنا في أزمة كورونا، ونتعامل معها بكل حكمة وتخطيط علمي -لله الحمد- ونحقق النتائج من الميدان، كذلك ينبغي أن ننطلق مع الغذاء، وأول جهة جغرافية يُمكن التوجه إليها فورا لبدء الخطوة الأولى الاستدراكية، هي النجد في محافظة ظفار، والتي بدأت ملامح صدقية الرِّهان عليها تتعزَّز الآن في ظل أزمة كورونا.
سمعنا مؤخرا عن إنتاج القمح في إحدى مزارع المواطنين، وقبلها سلَّطنا الضوء على نجاح اجتهادات مجموعة من المزارعين في إنتاج محاصيل مختلفة؛ مثل: البطيخ والشمام والفلفل والثوم والبصل الأخضر والطماطم والخيار والبامية والكوسة، وحتى التَّمر نجحت زراعته في النجد وبجودة عالية؛ ففي مزرعة واحدة فقط هناك بما يقارب الـ4000 نخلة تُنتِج كميات كبيرة من التمور عالية الجودة.
فكيف نتجاهل هذه النتائج الكبيرة؟ ورغم ذلك، تظل هي اجتهادات من مجموعة مواطنين ذهبوا للصحراء منذ الثمانينيات، ثم تبعتهم الآن مجموعة شركات، بدأت تنافسهم على الصحراء، وهذه الصحراء تستوعب كل مجتهد جاد، لكن تحتاج إلى تنظيم من ثلاثة أوجه؛ هي: تنظيم استغلال الأراضي، والتنسيق بين المزارع من أجل تكامل أداورها الإنتاجية منعا للتضارب والمنافسة غير الشريفة، ودعم المزارعين وتوجيههم للزراعات التي ينبغي زراعتها في النجد.
من هنا، نقترح تأسيس هيئة مستقلة رفيعة المستوي للتنمية الزراعية والحيوانية للنجد في ظفار، وبكامل الصلاحيات على غرار هيئة المنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم، تحل الإشكاليات الميدانية العالقة في النجد، وتتولَّى ملف تحقيق الاكتفاء الذاتي للغذاء العماني من النجد الظفاري، ومزودة بفريق للبحث العلمي، وتكون إحدى أذرع اللجنة العليا للأمن الغذائي التي اقترحت إقامتها في مقالنا السابق.
وتنفِّذ اللجنة الإقليمية توجيهات وإستراتيجيات الأمن الغذائي العماني على وجه السرعة، وتوجه الدعم المباشر وغير المباشر للمزارع التي تتقيَّد بسياسات الأمن الغذائي، وتقدر الأوضاع والأمور بوضعها المرئي لا المكتبي، وتقدم للمزارعين الخبرات والاستشارات الفنية، وتقوم بفتح منافذ تسويقية للباحثين عن عمل، تستقبل المنتجات الزراعية النجدية، وتقوم ببيعها لتجار التجزئة في كل أنحاء البلاد.
ومثل ما أنتجت مزرعة عبدالله بن سعيد الشعشعي كميات كبيرة من القمح في قرابة أربعة أشهر ونصف، فنحن على يقين بأنَّ الثورة الزراعية آتية من النجد إذا ما اتخذنا قرارًا بالبدء فورا، وخطَّطنا لها تنفيذيا وليس تنظيريًّا، واخترنا الأطر والكوادر التي تخدم قضية الأمن الغذائي العماني.
فلنبدأ فورا.. لم تَعُد الأزمات المتتالية والمتوالية تترك لنا خيارَ الاعتماد على الخارج بعد الآن؛ فذلك معناه المغامرة بأمن وأمان الوطن، ولن نعتمد على الغير، وما كشفه وزير الصحة عن التنصُّل قبل ساعة واحدة من تحويل المبلغ هو جرس إنذار لنا، وهذا يمكن أن يحدث لاحقا مع قضايا الغذاء إذا ما احتدمت قضيته؛ فمنطق من يدفع أكثر، يرجعنا لمنطق الغاب "الحق للأقوى"، وانغلاق الدول على ذاتها، ومنع تصدير معداتها للخارج وحتى لحلفائها.. كلها أجراس إنذار لنا، وعلينا استيعابها من الآن.
لن نصغي لأي قول سلبي يعرقل نهضتنا الزراعية في النجد، حتى أولئك الذين يلوحون بالماء، فكلُّ شيء أصبح مشكوكًا فيه الآن، وفي هذا الصدد حدَّثنا الشعشعي عن قضية الماء في النجد، وأوضح لنا أنَّ هذه الصحراء تسبح تحت بحيرات من المياه العذبة، وهو ما يُؤكده كذلك الكثير من أقوال الأجداد، وأوضح الشعشعي أنَّ مصدر هذه المياه السيول والأمطار التراكمية، واقترح إقامة ثلاثة سدود في أمكنة مختلفة لحجز مياه الأدوية الضخمة التي تشق الجبال، كاشفا عن أن امتداد أحد الأودية يأتي من الغيضة المجاورة.
فعلى بركة الله، نتوجَّه للصحراء بهذه الهيئة، وفريقها العلمي الداعم، كخطوة متزامنة مع خطوات مناطقية أخرى بمبادرات اللجنة العليا للغذاء -المقترحة- لتطوير واقعنا الزراعي أثناء وما بعد كورونا، وإذا ما أردنا أن نكون مُنفتحين أكثر، ونقود منظومتنا الخليجية نحو تعزيز ترابطها وتماسكها برابط مستدام، فإننا ينبغِي أن ننفتح على مقترح الأشقاء في الكويت الذين دعوا إلى إقامة شبكة أمن غذائي خليجي موحد لتحقيق الأمن الغذائي، وهنا ستتوافر لدينا السيولة المالية للاستثمار لمن يرغب من دول الخليج في شراكة حقيقية عن طريق إقامة صندوق للأمن الغذائي تشارك فيها الدول والمواطنون.
ومن المؤكد أن الكويت جاهزة، ومعها أو مع محيطنا الخليجي بدوله الست، يمكن أن نحقق التكامل الخليجي في قضية من أهم القضايا الكبرى، وهي الغذاء، ولا يخفى ما لهذا التوجه من أبعاد سياسية خليجية واضحة، ستزيد من لُحمة الأخوة، وستكون كفيلة بوأد أو تخفيف أية خلافات قد تنشأ مستقبلا.
ولن ننسى، ولا ينبغي أن ننسى، توقيف فرنسا شحنة للسويد قادمة من الصين وبها 4 ملايين كمامة؛ مما أثار غضب السويد، ووصفته بأنه انتهاك لقواعد الأخلاق، وقبلها، منع ترامب إصدار معدات طبية لكندا.. وهذه آخر انهيارات التضامن العالمي في أزمة كورونا على الأقل في عصر نظام العولمة، وليس مُستبعدا إذا ما طال أمد الأزمة أن تطال الغذاء.. ومن هنا، ندعو فورا إلى كتابة عهد جديد في صناعة الاكتفاء الذاتي من الغذاء، خاصة وكل أساسيات حياتنا عامة.