وول ستريت جورنال تنشر مقالا جديدا لوزير الخارجية الأمريكي الأسبق

هنري كيسنجر: العالم سيتغير بلا رجعة بسبب "كورونا"

◄ انهيار الدول ناتج عن غياب قدرتها على توقع الأزمات ووضع التصورات والحلول لها

◄ الحاجة ملحة الآن لإطلاق مشروع الانتقال إلى نظام "ما بعد الفيروس التاجي"

◄ من الخطأ تعامل الدول مع أزمة كورونا باعتبارها شأنا داخليا وطنيا.. فالكارثة عالمية التأثير

◄ الولايات المتحدة لن تتمكن من التغلب على "كورونا" بمفردها.. والتعاون العالمي حتمي

◄ على أمريكا بذل جهد كبير على 3 محاور رئيسية

◄ ضرورة دعم جهود إنتاج اللقاح وتضميد جراح الاقتصاد وحماية النظام العالمي الليبرالي

◄ العالم يعيش تحولا تاريخيا حاسما.. والفشل يشعل النيران في جميع الدول

 

ترجمة - رنا عبدالحكيم

تَوقَّع هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق والسياسي المحنك، أنَّ النظام العالمي بعد تفشي فيروس كورونا سيتغيَّر إلى الأبد، وبلا رجعة لما قبل يناير 2020، وقال إنَّ الجدلَ الدائر حول مرحلة ما قبل كورونا يُعيق بصورة رئيسية ما يجب القيام به في الوقت الراهن.

وفي مُستهل مَقال كتبه في صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، يقول كيسنجر: "تتماسك الأمم وتزدهر عندما تؤمن بقدرة مؤسساتها على توقع حدوث الكارثة، والعمل على وقف تأثيراتها واستعادة الاستقرار مرة أخرى". ويضيف أنه عندما تنتهي جائحة "كوفيد 19" سنجد أنَّ العديد من المؤسسات في مختلف الدول فشلتْ في مواجهة الأزمة، وهنا لا يهم ما إذا كان هذا الحكم عادلاً بشكل موضوعي أم لا، فالحقيقة هي أن العالم لن يكون كما كان بعد الفيروس التاجي.

وتزدَاد حَالَات الإصابة بالفيروس في أمريكا يوميًّا بوتيرة مُتسارعة، وحتى الآن لم يتم طرح علاج لهذا المرض، كما أنَّ الإمدادات الطبية غير كافية لمواجهة موجات الحالات المتزايدة، ووحدات العناية المركزة على وشك الانهيار، والاختبارات لم تَعُد مُناسبة لتحديد مدى الإصابة، فضلا عن تفشي المرض. وتشير التقديرات إلى أنَّ اللقاح الناجع سيكون متوفرًا خلال 12 إلى 18 شهرًا.

ويرَى كيسنجر أنَّ الإدارة الأمريكية نفَّذت جهودا قوية لتجنب الكارثة، بيد أنَّ الاختبار النهائي يتمثل في ما إذا كان من الممكن وقف انتشار الفيروس، وخفض معدلات الإصابة؛ بما يُحافظ على ثقة الجمهور في قدرة الأمريكيين على إدراة شؤونهم بأنفسهم.

ويشدِّد وزير الخارجية الأسبق على أهمية عدم تأثير جهود محاربة الفيروس، على تدبر آليات موازية لإطلاق مشروع الانتقال إلى نظام ما بعد الفيروس التاجي. ويوضح كيسنجر أنَّ قادة الدول يتعاملون مع الأزمة؛ باعتبارها شأنًا داخليًّا وطنيًّا إلى حدٍّ كبير، رغم أنَّ تأثيرات الفيروس تفكك المجتمعات بأسرها ولا تعترف بالحدود الوطنية، وهنا الخطأ. ويأمل كيسنجر أنَّ يكون إضرار الفيروس بصحة الإنسان مؤقتًا، لكن في الوقت نفسه فإنَّ الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي تسبب فيها الفيروس ستستمر لأجيال متعاقبة.

وقال كيسنجر: "لا يمكن لأي دولة، ولا حتى الولايات المتحدة، أن تتغلَّب على الفيروس بمفردها، ويجب أن تتزامن ضرورات اللحظة في نهاية المطاف مع رؤية عالمية للتعاون والتآزر، وإذا لم نتمكن من القيام بالأمرين معا، فسوف نواجه الأسوأ على الإطلاق".

ومن خلال استخلاص الدروس من تطوير خطة مارشال -لإنقاذ أوروبا اقتصاديا بعد الحرب العالمية الثانية- ومشروع مانهاتن -مشروع بحث وتطوير نجح في إنتاج أول الأسلحة النووية بعد الحرب أيضا- فإنَّ الولايات المتحدة يجب أن تلتزم ببذل جهد كبير في ثلاث مجالات.

أولاً: دعم الجهد العالمي لمعالجة الأمراض المعدية.. فإنتاج لقاح شلل الأطفال والقضاء على الجدري، أو ابتكار تقنيات التشخيص الطبي من خلال الذكاء الاصطناعي، منحنَا حالة من الرضا عن أنفسنا. لكننا بحاجة إلى تطوير تقنيات جديدة لمكافحة العدوى واللقاحات المناسبة واختبارها على مجموعات كبيرة من السكان. ويجب أن تستعد المدن والولايات والمناطق باستمرار لحماية سكانها من الأوبئة من خلال تعزيز المخزون الطبي والتخطيط وفق أسس تعاونية وتطوير الاستكشاف العلمي.

ثانيًا: السعي لتضميد جراح الاقتصاد العالمي. فقد تعلم قادة العالم دروسًا مهمة من الأزمة المالية في 2008، لكن الأزمة الاقتصادية الحالية أكثر تعقيدًا، فالانكماش الذي تسبب فيه الفيروس التاجي في سرعته ونطاقه العالمي، يختلف كليًّا عن أي أزمة سجلها التاريخ المعروف لنا. كما أنَّ تدابير الصحة العامة الضرورية؛ مثل: التباعد الاجتماعي، وإغلاق المدارس والشركات، تُضَاعِف الآلام الاقتصادية. وهنا، يجب أن تسعى الحكومات لتنفيذ برامج تسهم في محو آثار الفوضى الوشيكة، لا سيما على أضعف السكان في العالم.

ثالثاً: حماية مبادئ النظام العالمي الليبرالي. فالفكرة الأسطورية التي أسست النظام الحكومي الحديث ترتكز في جوهرها على مبدأ المدينة المُحاطة بسياج ويحميها حكام أقوياء، وأحيانًا مستبدون وأحيانًا أخرى غير ذلك، لكنها تظل قوية دائمًا بما يكفي لحماية الناس من أي عدو خارجي.

وأعاد المفكرون في عصر التنوير صياغة هذا المفهوم، بحجَّة أن الدور الرئيسي للحكومة الشرعية يتمثل في توفير الاحتياجات الأساسية للأشخاص؛ مثل: الأمن والنظام والرفاهية الاقتصادية والعدالة؛ فلا يمكن للأفراد تحقيق هذه الأهداف بأنفسهم.

وأثار وباء كورونا مفارقة تاريخية؛ إذ أحيا من جديد فكرة المدينة المحاطة بالسياج، في عصر يعتمد فيه الازدهار الاقتصادي والاجتماعي على التجارة العالمية وحرية حركة الأفراد.

واختتم كيسنجر مقاله بطرح مجموعة من التوصيات؛ منها أنَّ الحكومات الديمقراطية في العالم في أمسِّ الحاجة للدفاع عن قيم التنوير والحفاظ عليها،. وتوقع أن ينجم عن انهيار ميزان السلطة والشرعية تفكُّك العقد الاجتماعي على المستويين المحلي والدولي. لكنه يرى في الوقت نفسه أنه لا يمكن تسوية قضية الشرعية وقوة الألفية الثانية في وقت واحد بالتزامن مع محاولة التغلب على وباء "كوفيد 19". ويشدد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق على أنَّ ضبط النفس أمرٌ ضروريٌّ فيما يتعلق بقرارات السياسة الداخلية والدبلوماسية الدولية، وأنه يجب تحديد الأولويات؛ إذ إننا نعيش مرحلة تاريخية حاسمة، والتحدي التاريخي الذي يقع على عاتق الزعماء والقادة يتمثل في إدارة الأزمة وبناء المستقبل؛ فالفشل لن يؤدي سوى إلى إشعال النيران في العالم بأسره.

تعليق عبر الفيس بوك