حمد بن سالم العلوي
إنَّ الشدائد تَصنع المعجزات، وقفت على تغريدة لأحد المغرِّدين عن المرحوم جلالة السلطان سعيد بن تيمور -طيَّب الله ثراه- فقال عنه هذا المغرِّد؛ عندما علم بقيام الحرب العالمية الثانية، أمر الناس بالاتجاه إلى الزراعة، فأطاعوه الناس واتَّجهوا إلى الزراعة، وعمَّروا الأرض بالزراعة، وأكلوا مما زرعوا، ولولا فِطنة السلطان سعيد لرُبما واجهوا مشقَّة كبيرة، وربما مات بعض الناس جوعاً؛ لأنَّ التجارة العالمية قد توقفت، وانشغل العالم بالحرب، وها نحنُ اليوم نمرُّ بحرب كونية لا نعرف منتهاها، وإن كنا قد عرفنا جندها، ولكن لا نراهم بالعين المجردة، وهذا الجندي غير المرئي، أغلق علينا الحدود كلها برَّها وبحرَها وجوَّها، وحبس الناس في البيوت في رعب ووجل، تُرى ماذا سيحصل إذا طالت المعركة مع العدو العالمي "كورونا"، ونفد مخزون الغذاء والدواء ونحن جالسون في المنازل؟!
فإنَّ الزراعة في بلادنا التي كانت تقوم عليها حياة الناس قد عُطلت، والناس غادروا مزارعهم إلى الوظائف الحكومية، أو العمل في نواحي أخرى غير الزراعة، وتركت الزراعة وأموال النخيل يعبث فيها الوافدون، يهدرون المياه، ويدمرون التربة الزراعية، ويحولونها إلى بوار، تحت سمع وبصر الحكومة والناس جميعاً.
لقد غضَّت الحكومة الطرف عن الزراعة، وما يحدث لها من خراب وإهمال، بل تشدَّدت في صرف النظر عن الزراعة، فأوقفت الدعم أو ماطلت فيه، وألغت مراكز التسويق الزراعي، تلك النافذة الصغيرة التي كانت تشجع المزارعين، وتركت مصنعي التمور في نزوى والرستاق يذوبان في دوامة الاندثار العَمْدِي، وتشددت في إعطاء تصاريح آبار الماء رغم وجود مزارع قائمة، وأهملتْ إنشاء السدود إلا على استحياء، وأسرفت في الوقت نفسه في سدود الزينة كسد "وادي ضيقة" الذي كلف عشرات الملايين ولم يرد ريال واحد إلى اليوم، وقد سبق لي وأن كتبت مقالًا عنه في جريدة "عُمان"، ووضعت مجموعة من المقترحات لاستخدامه واستغلال مياهه الراجنة الراكدة في قاع الوادي، وتركها لتعشب في القاع مرتعًا للطحالب، فهذا السد شأنه وشأن النهر العظيم في ليبيا سيَّان.
إذن قد كانت عُمان بلدًا زراعيًّا بالدرجة الأولى؛ وذلك قبل أن تقع علينا نقمة البترول، فأذكر في ستينيات القرن الماضي، وقد كنا نُقيم في قرية صغيرة اسمها "حيل العرْب"، وكان في القرية ما يزيد على ثلاثين نفساً، جميعنَا كنا نسترزق مما تزرع أيدينا، ولكن بعد السبعين خرجنا نلهث مع اللاهثين وراء الرزق السهل وهو سراب، فتركنا القرية بحجة تأخر الخدمات في الوصول إليها، فصرنا نجاورها ونزاورها، فظللنا كذلك حتى لا تَفنى بعوامل الإهمال مع مرور الزمن، وقبل فترة وجيزة مَنَّ الله علينا بطريق تُرابي للسيارة، وعقدنا النية للعودة إلى القرية من جديد، وبجهودنا الذاتية بنينا سبلة عامة ومرافقها، واتفق أهل القرية على أن يعتبروا الحارة القديمة كنزًا تاريخيًّا، فإذا رممت القرية ستكون مَتحفا نموذجيًّا للقرية العُمانية، وربما تحوَّل إلى نزل يستفيد من ريعه في تطوير القرية، والاتجاه إلى الزراعة وتطويرها وإدخال البيوت المحمية فيها.
ولكن اعترضتنا عُقدة العقد مع شركة "مجان"؛ فقالت نجوم السماء أقرب لكم من سلك واحد يصل إلى القرية، فتوسَّلنا بالشيخ وسعادة الوالي فدعموا الطلب، وهذا طبعاً من مضار تخصيص المرافق الأساسية، وأرفقنا بالطلب الجمعي ملكية السبلة العامة وباسم الحكومة، فقلنا إنْ لم تُقدِّر الشركة سكان القرية، فلا شك أنها ستحترم الحكومة، ولأنْ تمر ثلاث سنوات ويتكرَّر الرد بالرفض في شهر ذي القعدة من كل عام، ولا نعرف السر لماذا في ذي القعدة؟! إلا إذا المسؤول عن الخدمة موعود بمنحة للحج، وعندما يؤجل طلبه يقوم هو برفض الطلبات (هذا احتمال)، ولكن هم يقولون إنَّ المشكلة تكمُن في 200 متر زيادة على كيلو ونصف المصرَّح لهم به، والآن هناك التماس مرفوع إلى الرئيس التنفيذي لمجموعة "نماء"، وننتظر ماذا سيحدث في شهر ذي القعدة القادم (هذه مجرد فقرة فاصلة في الموضوع، ولكن لها علاقة بعقد الزراعة).
تُرى: هل من عودة إلى الزراعة والرعي؟! فهاتان الصنعتان اللتان تُمثلان الاقتصاد الأخضر، وهو اقتصاد قوي ودائم وباقٍ ما بقيت الشمس والقمر في دورانهما حول الأرض، وهل من عودة إلى صيد البحر؟!! ويضاف إلى اقتصاد صيد البحر عوائد الموانئ البحرية والجوية، فهي عناصر مجتمعة في تمثل الاقتصاد الأزرق، وحكم بقاء هذا الاقتصاد من حكم بقاء البحار، ونحن نثق يقيناً في دعاء رسول الله -صلى عليه وسلم- لأهل عُمان؛ حيث قال: "اللهم وسّع لهم وعليهم في ميرتهم، وكثّر خيرهم في بحرهم".. إنَّ هذا الدعاء يحتاج إلى رعاية وعناية وإيمان، وحتماً سيتحقق؛ ذلك لأنَّ قائله لا ينطق عن الهوى، ففي هذا الدعاء حافز عظيم للعمل بإخلاص وتفان، واعتقاد فيه بالنجاح، وفيه تشريف وفخر، وتكليف لأهل عُمان للاعتماد على الذات بعد التوكل على الله.
إذن؛ علينا ألا نجعل الاقتصاد الأسود مرتكزًا لاقتصادنا الدائم؛ فهذه ثلاث نكبات يخلفها لنا النفط والمسمى بـ"الذهب الأسود"، ونحن لم نستوعب الدرس بعد؛ فلماذا لا نتحوَّل مباشرة إلى الذهب الأخضر والأزرق والأبيض (إشارة إلى دماغ الإنسان وابتكاراته)؟! فنحن إذا تحولنا إلى هذه البدائل الموثوقة، فبإذنه تعالى ستتحول بلادنا خلال أعوام قليلة مقبلة إلى دولة مستقلة -ولا أقصد هنا الاستقلال السياسي- فنحن مستقلون سياسيًّا منذ بداية الخليقة إلى نهايتها بفضل من الله وتوفيقه، ولكنَّ المقصود بذلك الاستقلال الغذائي والاقتصادي بشكل عام؛ فعلى أقل تقدير سنضمَن لأنفسنا الأمن من الخوف والجوع.
إنَّ النهضة العلمية التي رافقت النهضة العُمانية الكبرى، تمخَّض عنها جيل من العباقرة المبدعين، فلا ينقصهم العزم والصبر وروح الابتكار والإبداع، لكنهم يريدون مظلة يعملون تحتها، تحميهم التقلبات وتوفر لهم المال والأمان؛ فلو أنَّ المليارات التي أهدرت في الجدران والشركات الفاشلة، واستثمرت في علماء عُمان، وأقواتها اليومية التي تستورد من الخارج (ربما) كان بعضها مغشوشا، وشجعنا الناس على العمل، وأشرفنا عليهم وحفَّزناهم، وقلنا لهم اجعلوا التواضع فقط في الأخلاق، أما في العلم والابتكار فلا تواضع فيهما، فعندئذ ستصبح عُمان تمثل لؤلؤة الشرق العربي، ونظيرًا منافسًا للدول المتقدمة، لن تتأخر سيارة نور مجان عن التصنيع والتصدير، خاصة وأنَّ العالم يحترم الصناعات العُمانية. أكتب هذا الكلام ومُخيلتي تشدّني إلى الرؤية المستقبلية 2040، وأتعشم فيها كل هذه الأمنيات.. اللهم احفظ عُمان وشعبها الأبيِّ وسلطانها الأمين جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -أعزَّه الله وأبقاه.