زمنُ الجدِّ

 

د. صالح الفهدي

 

تتقلَّبُ الأزمنةُ على النَّاس، فالأيَّامُ دولٌ، لا تمضي على شاكلةٍ واحدةٍ، فهي بين سرورٍ وشقاءٍ، وحبورٍ وعناءٍ، يقول الحقُّ سبحانهُ وتعالى "وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ" (آل عمران/140)، وما أضاعَ الإنسانَ من شيءٍ، ولا كانَ سبباً في ارتكاسِ معيشته، وتحوِّلِ حياتهِ من رخاءٍ ورغدِ عيشٍ، إلاَّ أنَّه تناسى –وهو في سهوِ هناءته وغفلةِ انشغاله ولهوه – أنَّ الحياةَ مُتقلبة، لا ينجو منها إلاَّ من يفهمُ طبعها، وهكذا يقول الإمام علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه في قصيدته "الزينبية":

صرمت حبالك بعد وصلكَ زينبُ .. والدهرُ فيه تصرُّمٌ وتقلُّبُ

وفيها يقول:

لا تَأمَنِ الدَهرَ الصَروفَ فَإِنَّهُ .. لا زالَ قِدماً لِلرِجالِ يُهذِّبُ

وكذلك الأيام في غدواتها .. مرت يذلُّ لها الأعزُّ الأنجبُ

ولم يكن ليحدث للمُسلمين في الأندلس من انتكاسةٍ وخيمةٍ، وهزيمةٍ ذميمةٍ، إلاَّ أنَّهم رغدوا في عيشهم إلى حدِّ الانغماس في الملذَّات، وغاصوا في الشَّهوات، فأوهت قوَّتهم، وغرَّتهم الحياةُ الدنيا، وحسبوا أنَّهم بمنجاةٍ من أيِّ قدرٍ حازم، ونكالٍ حاسم، وهم في قصورهم المنيفة كما في قصر الحمراء، وفي قلاعهم الشامخةِ كما في قلعة إشبيلية، لكنها لم تكن لتحميهم من انكسارِ قوتهم، وانحسارِ إيمانهم، يقول أبوالبقاء الأندلسي في مطلعِ قصيدةٍ مشهورةٍ:

     لكل شيءٍ إذا ما تمَّ نقصانُ .. فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسانُ  

هي الأُمورُ كما شاهدتها دُولٌ..مَن سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمانُ

وأعجبُ ما تتغافلُ عنه الأُمم في لذيذِ عيشها، وهناءةِ سرورها، أهلُ الجدِّ من أبنائها، الصادقون في نصحهم، المخلصونَ في أفعالهم، فتقدِّمُ عليهم النكراتُ الإمَّعاتُ الذين يحتالونَ بالتزلُّفِ، ويقتاتون بالنفاقِ، ويتمسَّحونَ بالتملُّقِ، وهم حُثالات الناس، وأرذالهم؛ لا علمَ يُعليهم منزلةً، ولا أدبَ يرفعهم مرتبةً، فيكونون بهذا السُّخفِ، والسَّفهِ فوقَ مرتبةِ الأعلامِ، والعلماءِ، والأدباءِ، والمُفكرين، والنصحاءِ..! وهم مقدَّمونَ عليهم في المجالسِ التشريعية التي ترسمُ مستقبلَ الأوطان، وفي المصالحِ الحكومية التي تقودُ تنميتها، وتُعلي بنيانها، وتوجِّهُ سياستها، وتلكَ دلالةٌ على هشاشةِ بنيانُ الأمَّةِ، وضعفِ سياستها، وهزالةِ تفكيرها، وانحدار قيمها..!

وهؤلاءِ الإمَّعاتُ لا حراكَ لهم إن هبَّت العواصفُ الهوجاءُ، وادلهمَّت الخُطُبُ السوداءُ، فهم في الأصلِ فراغٌ أجوف، لم يصل إلى ما وصلَ إليهِ إلاَّ بالتمسكن والتزلُّف..! وحينَ تحتاجُ الأمَّةُ إلى من ينصرها في زمنِ الجدِّ حيثُ تضطربُ الأحداثُ، وتشتدُّ الأزمات، لن تجدَ هؤلاءِ الفارغونَ النَّاعمونَ لأنَّهم ليسوا بأهلٍ للجدِّ فهم كالنِّعامِ تدفنُ رؤوسها في الرَّملِ حتى تمرَّ الأحداث، فإن كانَ مرورها خيراً تطاولوا في قاماتهم وكأنما كانوا ممن نصروا أوطانهم في الكُربات، وإن كان مرورها شرَّاً كانوا أسبقَ من غيرهم قفزاً من القاربِ الغارقِ، حيثُ تغنيهم أموالهم التي صدَّروها إلى أوطانٍ أُخرى لتنجيهم من مثل هذه الأزمنةِ الحالكة.

أمَّا الأوطانُ فلن تجد وهي تصارعُ الشدائدَ والكروب سوى أهلُ الجدِّ، وتتذَّكرُ أصحابُ الأفعال، وفي هذا يقول أبو فراس الحمداني وهو في أسر الروم:

سيذكرني قومي إذا جدَّ جدَّهمُ .. وفي الليلة الظلماء يفتقد البدرُ

هؤلاءِ الجادُّون هم من يقفُ لنصرةِ أوطانهم، وهم من يعدلونَ ميلها، ويواسون كُربها، ويتصدَّونَ بصدورهم العارية للسهام التي ترمى نحوها، ولا يبخلون بأموالهم من أجلِ أن يكون الوطنُ عزيزاً، شريفاً. في زمنِ الجدِّ يعلو صوت محبِّي الوطن، وذاكري معروفه، كمثل أسطورة الأزياء "جيورجيو أرماني" الذي قال مقولته الشهيرة: "لن أدع إيطاليا تسقط على ركبتيها وإن أنفقت عليها كل ثروتي" ولم يرفع ذلك شعاراً أجوف بل بنحو 1.4 مليون دولار للمستشفيات في مدينتي ميلانو وروما، وكذلك لوكالة الحماية المدنية الإيطالية، فكم هم الذين سيقولون ويفعلون مثل أرماني في بلادِ العالم؟!

في زمنِ الجدِ يختفي التافهونَ، ويختبئ الحثالات، أولئك الذين كانوا ينعقون في شتى المُناسبات بحبِّ الوطنِ، والولاءِ له، والمجدُ لعزته، فلا تكادُ تسمع لهم ركزاً ولا همسًا، فهم يُراقبونَ تقلبات الأحداث، ويرسمون المسارات، ويخططون للقرارات، وفقاً لتقلباتها، ومآلاتها.

أمَّا أهلُ الجدِّ فيتعلقون بأستار الوطن، ويتشبَّثون بحبال سفينته في العبابِ المضطربِ الأمواج، لا همَّ يعتورهم في تلك اللحظات العصيبة سوى منجاة الوطنِ من أزمته، وسلامتهِ من وطأةِ شدَّته، ومهما داخلهم العتبُ على ذلك الوطن الذي أقصاهم وقدَّم عليهم النكرات، فإنهم ينبذون ذلك العتب في لحظةِ الجدِّ، ولسان حالهم يقول:

بلادي وإن جارت عليَّ عزيزة .. أهلي وإن ضنُّوا على كرامُ

ولقد قُلتُ في أحداثٍ مرَّت منذ سنوات، أن ساسةَ الأوطان إن لم يلتفتوا بعد هذه الأحداث إلى رموزِ أوطانهم من علماءَ، ومفكرين، وأدباءَ، وباحثين، وأهل رأيٍ ونصيحةٍ، وعادوا إلى ما كانوا عليه من تقريبِ الأفاقين، والمتزلفين، فإنهم سيعودون إلى ارتكاب الخطأ التاريخي الذي يقودُ الأمَّة إلى هلاكِ أمرها، وضياعِ مجدها، فهؤلاءِ –في كلِّ أمَّةٍ- هو بُناةِ المجدِ، وحُماةُ العرضِ فيها، وهي بغيرهم فقيرةُ المبادئِ، ضليلةُ القيم، حاسرةُ النماءِ، شحيحةُ العطاء.

زمنُ الجدِّ هو عبرةُ للمُعتبرينَ من أهل السياسةِ لتصويبِ الاتجاهِ نحو العقول النابغة، والكفاءات العظيمة من أبناءِ أمتهم، فإن أعلوهم منزلةً، وقدَّموهم مرتبةً، صححُّوا مسيرتهم، وتقدموا بأوطانهم، وإن هم أدنوا من شأنهم، وقلَّلوا من قدرهم جلبوا الدمارَ والهلاك لأوطانهم.. وتلك دروسٌ من الحياةِ لا يعقلها إلاَّ العالمون.