تجربتي الشخصية في البقاء المنزلي

 

د. عبدالله باحجاج

اعتبر نفسي مثالياً في الالتزام بالبقاء في المنزل تجسيداً للتعليمات والتوجيهات الاحترازية من فيروس كورونا، لذلك، فلديَّ تجربة شخصية عمرها ثلاثة أسابيع حتى الآن، لم أغادر منزلي إلا في حالة شراء حاجيات أساسية فقط، وقريبة من المنزل، وحتى في هذه الحالة أرتدي كمامة وقفازتين، لذلك، فتجربتي جديرة بأن أنقلها بصوت مرتفع، لربما يجد فيها البعض ما يُعينه في الخلوة الأسرية للذين دخلوها حديثًا، أو الذين دخولها مؤخرا، ويجدون فيها الضجر والملل، وإذا لم يدخلها البعض حتى الآن، فسيكونون قد فوتوا على ذواتهم وأسرهم تجربة العمر.

إنها فعلاً كذلك، فقد أتاحت لنا الظروف القهرية أن نعيد اكتشاف عوالمنا الأسرية بساعات أطول من الساعات التي تتيحها لنا الأيام الاعتيادية، فكيف نرفض هذه التجربة الاستثنائية؟ ما أحوجنا لمثل هذه الاكتشافات ونتائجها خاصة الآن بعد أن سحب منِّا فيروس كورونا الكثير من حرياتنا الفردية، وصادر منِّا الكثير من عاداتنا الاجتماعية المتوارثة، كالزيارات والتجمعات والأفراح وحتى واجبات العزاء.

وقد انتزع منِّا كورونا - كما أشرنا في إحدى التغريدات – بعض المسلمات " كالإنسان كائن اجتماعي بطبعه" فكورنا يرى العكس، حيث يلزم الفرد أن يكون بعيدًا عن الجماعة إذا ما أرادوا أن يكونوا جميعا في مأمن، وهو الآن – أي كورونا يسلب الصفة الاجتماعية عن الفرد من أجل الجماعة، وهذه الأخيرة من أجل المجتمع، فقد رفع القلق على سلامتنا وعلى وجوديتنا في الحياة، ولم يعد أمامنا من خيار سوى العودة الكاملة لمنازلنا الآن بقوة الإرادة الشخصية، وربما غدا بقوة القانون وتنفيذ القوة.

مضى أسبوعي الأول من بقائي في المنزل، ثقيلاً وطويلاً ومملاً، فقد كنت معتاداً على اللقاءات والاتصالات والتقارب، كل سلوكياتي المتعلقة بالعلاقات الاجتماعية والمهنية وتفاعلاتي في الحياة الميدانية، قد تغيرت رأساً على عقب، وبالدرجة المئوية الكاملة، مما سبب لي في البداية تلكم المشاعر السلبية، غير أنني لم أفقد الإيمان بحتمية البقاء في المنزل مع أفراد أسرتي، كسبب موضوعي لمُواجهة خطر كورونا مع إيماني المطلق بالقدر، لكن هي الأسباب التي ينبغي على الفرد منِّا أن يأخذ بها.

لذلك، فقد كنت متحلياً بالصبر، وليس من معين لي غيره – بعد الله عزّ وجلّ - لأنني لا يُمكن أن ألغي عقلي ووعيي وأتجاوز بأفراد أسرتي مناطق خطر يستهدفها عدو لا يُرى بالعين المجردة، ولا يفرق بين صغير وكبير، ولا غني ولا فقير، لا يُمكن أن ألغي ثقافتي، وأغيب مسئوليتي عن أسرة، ونكون صيدا سهلا للعدو عابر بسهولة للديموغرافيات، وهو الآن في ذروة التصعيد.

كل يوم يزداد صبري قوة ومتانة بل وحصانة، عندما أتابع نشرات وزارة الصحة عن ارتفاع عدد الإصابات في البلاد، وأشبه نفسي بأنني قائد سفينة ركابها من مختلف المستويات السنية ومجموعة من الظروف الخاصة، فهل أكون ملتزماً مع ذاتي، وحرصا كل الحرص على سلامة وحياة راكبيها أم أترك لنفسي أن يقودني هواها كما كانت قبل أزمة كورونا، خاصة وأني مسؤول كأب أسرة عن من يقع في دائرة مسؤوليتي الأبوية؟

وسرعان ما تجاوزت مطبات الملل والضجر من المكان الواحد على مدار الساعة، وسرعان ما تخلصت من الشعور بفقدان حرية فضاءات ما قبل كورنا، والآن بقيوده المكانية، وحدث العكس "سبحان الله" وجدت منزلي بحجم وطن، وأسرتي بحجم  شعب، وتعاظمت مسؤولياتي بمشاركة من يُشاطرني هموم التنشئة والتربية والتعليم لأولادي، فحولنا هذه المحنة إلى مراجعة ذاتنا الأسرية في كل الجوانب الروحية والأخلاقية والاجتماعية.

فماذا كانت النتيجة؟

رجع بنا الحال، وكأننا نؤسس ذواتنا من جديد، كل فرد منِّا ينظر للآخر، يقترب منه، يدخل في عوالمه الخاصة، يستفيد من تجاربه، يقوي مناطق معينة، ويُعزز أخرى في كل مناحي الحياة بعلومها الدينية والدنيوية، كل واحدٍ منِّا وجد الوقت الكافي لكي يفكر في ذاته وفي الدنيا ومالاتها الأخروية، كلنا تحصلنا على الوقت لقراءة كتب مرصوصة فوق أدراج مكتبتنا من سنوات، ووجدنا الوقت للاستماع لبعضنا البعض، وتبادل الحوار مع الذات الجماعية.

فما أجمله من إحساس بمتعة اللمة الأسرية، وباحتضان الأسرة أبنائها، والتفكير الجماعي بتصويب مسارات وتقوية جوانب فردية وجماعية، ولم أشعر بالإحساس الرائع لطلة بلكونتي على الجبل إلا بعد أن اتخذته مكانًا لتأملاتي الفجرية اليومية، عندها شعرت بأن السعادة هي أقرب منِّا، ونحن بعيدون عنها، فلنقترب منها حتى نجدها قبل فوات الأوان.

من هنا، أتوجه لأشقائنا في المسؤولية الأسرية بالقول، إن كل أزمة كبيرة، تفرز واقعاً جديداً ومختلفاً عن ما قبل الأزمة، وهذا سيكون مع أزمة كورونا – لا محالة – فعلى صعيد التحولات الاجتماعية، تتيح لنا هذه الأزمة، فرصاً ذهبية، بل إنها أغلى من كل المعادن النفيسة على الأرض، فكيف نحولها إلى منافع ومكاسب؟

رجوع رب الأسرة إلى منزله بإحساس القلق على أفرادها الذين هو مسؤول عنهم أمام الله عز وجل، وعودة البعض حتمية لتصحيح علاقاته مع أسرته، بعد أن اتخذوها مسكنا للنوم غالبا، لا يعرف متى خرج أبناؤه أو متى عادوا؟ والآن لديهم فرصة لعودة الآباء والأبناء إلى منازلهم، وفتح صفحة جديدة لما بعد كورونا، لن تجدوا أفضل من هذه الفرصة للتصحيح وبناء علاقات أسرية جديدة، خاصة وأن الأبناء هم الآن في أمس الحاجة لمن يقف معهم في نظام التعليم عن بعد الجديد. فالأبناء يحتاجون إلى دعم ومساندة لمواصلة مسيرتهم التعليمية، وإلا تأخروا عن الركب.

 وبقية المنافع سنتركها لاكتشاف التجارب الأسرية في حالة التزامها بالبقاء في المنازل تحت هواجس القلق من كورونا الذي كل يوم تتصاعد ضحاياه في مؤشر على أن بلادنا تدخل فعلاً لمرحلة الذروة، بدليل أعداد الإصابات اليومية، فاليوم تمَّ الإعلان عن "15" إصابة جديدة، النسبة الكبيرة نتيجة المخالطة، بمعنى أن نصف الأعداد تقريبا، يمكن تجنبها لو التزم الكل بالبقاء بالمنزل، وربما على بلادنا أن تحملهم بقوة القانون على الالتزام، ليس أمامها من خيار آخر غير ذلك، لكن، أنصح كل رب أسرة أن يدخلها من منظور اكتشاف عالمه الأسري، وتصحيح ما يمكن تصحيحه أو تعزيزه أو دعمه .. وكم من رب أسرة يحتاج إلى التصالح مع أسرته، وعاجلا، وهذه فرصته الآن، فهل يفوتها؟ والله من وراء القصد.