د. صالح الفهدي
أسئلة عَمِيقة ومشروعة تتبَادر إلى الأذهان في ظلِّ تفشي جائحة كورونا "كوفيد 19" عن المؤامرة، والفاعل، والمستفيد، وصورة العالم.. لم نَعُد نستثني شيئاً، فكَما يُقال "الحقيقة ضالة الحروب" وهي ضالة الأزمات والخطوب أيضاً! فالأفلام السينمائية التي عَرَضت سيناريوهات مرعبة في الماضي كُنا نحسبها "خيالات سينما"، بيد أننا نراها اليوم ماثلةً أمامنا تتحقَّق بتفاصيلها الدقيقة، فيعود الناس إلى تلك الأفلام التي تنبأت بوقوع مثل هذه الكوارث العالمية، وما يكمُن وراءها من دسائس ومؤامرات ومقاصد!
ولم تكُن هي في حقيقتها إلا ترجمة لروايات اشتغلَ مُؤلفوها على حبكات ليست بعيدة عن الواقع كما في رواية "عيون الظلام" (Eyes of the Darkness)، وتنبأ كُتَّابها بما يحدث في العالم من سيناريوهات وفقاً لقراءتهم لما يحدث في عوالم سرية تهدف لسيطرة نُخبة الأثرياء على العالم فيما يُسمِّيه المؤلف البريطاني ديفيد إيك David Icke بمجتمع مباريات الجوع Hunger Games Society، ولكي نفهَم مَعزَى هذا التوصيف نعود إلى الرواية التي حملت عنوان "مباريات الجوع" Hunger Games للكاتبة الأمريكية سوزان كولنز Suzanne Collings؛ حيث يفهم من الرواية أن مباريات الجوع هي في الحقيقة مهرجان سنوي، يتم اختار فتى وفتاة بنظام القرعة، تتراوح أعمارهم بين 12 و18 سنة، من كل مُقاطعة من المقاطعات الاثنتي عشرة المحيطة بالكابيتول، ليتقاتلوا حتى الموت ضمن برنامج واقع تليفزيوني، وهناك فائز واحد فقط، هو من يستطيع البقاء على قيد الحياة.
وفند ديفيد إيك مقصده من المصطلح الذي أطلقه في برنامج London Real أنَّ نسبة الأثرياء في العالم وهي 1% ترمي إلى القضاء على المشاريع الصغيرة والمتوسطة لتبقى الشركات الكبيرة مثل أمازونAmazon ، ولعلنا قد سمعنا أن هذه الشركة قد وظفت 100 ألف موظف، كما أعلنت شركة وول مارت Walmart أنها ستوظف 150.000 شخص لتلبية الطلب المتزايد مع مخاوف فيروس كورونا!
وعودة إلى توصيف ديفيد إيك، فإنه يقدم صورة لما يحدث، متبُوعاً بتفسير آخر يقدمه كتاب "عقيدة الصدمة" The Shock Doctrine للمؤلف نعومي كلاين، وفيه يتحدث عن إحداث مشكلات هائلة، أو استغلال كوارث طبيعية لإعادة تشكيل الواقع بعقيدة الصدمة التي سيقبل بها من أصيب بالكارثة؛ لأن موقفه ضعيف بعد المعاناة التي لاقى فيها "خائف يترقب"!
وهذا ما يتنبأ به المراقبون، والمفسرون للأحداث اليوم بغض النظر عن قصدية الأزمة واختلاقها أو طبيعيتها؛ أنَّ العالم لن يكون هو نفسه قبل فيروس كورونا "كوفيد 19"، يقول الرئيس التركي أردوغان: "العالم عقب هذا الوباء، يتجه نحو مرحلة لن يكون فيها أي شيء كما كان من قبل، وسنشهد بناء نظام عالمي جديد على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتركيا تدخل هذه المرحلة الجديدة بمزايا كبيرة وبنية تحتية قوية".
ملامح هذا العالم ستظهر في عدة صور، يشكلها المنتصرون على الوباء بالصورة التي تروق لمصالحهم، ويُعيد تركيبها الذين استطاعوا أن يُبرهنوا للعالم أنهم يمتلكون القدرة على إدارة الأزمة -على هولها وحدتها- بكفاءة عالية، ومسؤولية عظيمة، وهذا ما أظهرته الصين في تعاملها مع الوباء من نواح مختلفة. وفوق ذلك فقد استطاعت الصين أن تقدم المعونات الطبية، والإنجاد الصحي للدول المتضررة ومنها بعض الدول الأوروبية التي بدت مهزوزة في تعاملها مع الأزمة شأنها شأن الولايات المتحدة الأمريكية التي انكفأت على نفسها، وأغلقت حدودها حتى على أصدقائها الأوروبيين، الأمر الذي سيضعف من هيبتها وزعامتها وصورتها العالمية.
الرئيس الصِّربي قال كلمةً قويةً انتقدَ فيها الاتحاد الأوروبي على تخلِّيه عن معُونة صربيا، وقد كان الأوروبيون يفرضون على صربيا شراء المنتجات الأوروبية بديلاً عن المنتجات الصينية، وختم كلمته بحكمة قال فيها: "أصعب الأوقات، تظهر أفضل الأصدقاء"، وهذا الذي سيحدث في عالم ما بعد كورونا، أنَّ كل دولة ستتذكر وقوف أصدقائها معها في أحلك الظروف، وستراجع علاقاتها مع من كانت تظن أنه أفضل الأصدقاء قبل الأزمة.
... إنَّ نظاماً عالميًّا يتشكل بعد هذا الوباء عِمادُه تغيير الزعامات لصالح جمهورية الصين، واستعادة الحكومات لسلطتها وقوتها التي تنازلت عنها لصالح الخصخصة أو مؤسسات المجتمع المدني أو من أجل الديمقراطية، وقد ينال ذلك "الاستفراد" حقوقَ الإنسان والدساتير في دول عدة!
وهذا ما يراه العالم ستيفن والت Stephen Walt أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفرد الأمريكية، في تحقيق أجرته مجلة "فورين بوليسي": "أن جائحة كورونا ستسهم في تقوية الدولة وتعزيز الوطنية، وأن الحكومات في مختلف أنحاء العالم ستتبنى إجراءات طارئة لإدارة الأزمة المتمثلة في تفشي الوباء، لكن العديد من تلك الحكومات لن ترغب في التخلي عن السلطات الجديدة عندما تنتهي الأزمة".
وفي نطاق التوقعات، يرى العميد السابق لكلية لي كوان يو في سنغافورة الباحث كيشور محبوباني: "أن جائحة كورونا ستنقل محور العولمة من أيدي الولايات المتحدة إلى أيدي الصين". وكما اعتكف أرباب البيوت في بيوتهم، اعتكفت الحكومات في الداخل ليفهم الجميع -أفراداً وحكومات- حقيقة علاقاتهم، والمصائر التي تجمعهم.
... إنَّ الدولة العاجزة عن فهم عالم ما بعد وباء كورونا لن تستطيع أن تُغيِّر من نفسها شيئاً، وإنما ستتأخر في ركبها وتقدمها، أما الدولة التي تستثمر المحنة فتُحِيلها إلى منحة بإحداث تغييرات قوية في أنظمتها، وآليات عملها، لتتواءم مع المستجدات العالمية، فإنَّ فرصتها في التقدم والانتقال إلى مراحل جديدة ستكون متاحة ومواتية، وذلك أمر مرهون بالكوادر التي تتبوأ زمام القيادة في هذه الدول.