كورونا وأثره على الالتزامات التعاقدية

 

رأفت فوزي عبدالعزيز *

* المحامي

لقد تأثر العالم أجمع بانتشار فيروس كورونا المستجد، واتُّخذت العديد من الإجراءات الاحترازية للحد من انتشار هذا الخطر الداهم الذي حَصَد عشرات الآلاف من الأرواح، وأصاب مئات الألوف غيرهم على مستوى العالم.

وكانَ من بَين الإجراءات الاحترازية التي اتُخذت: تعليق رحلات الطيران، وتعليق العديد من الخدمات، وغلق العديد من الأنشطة التجارية عدا الغذائية والصحية منها؛ مما يُؤثر تأثيرًا مباشرًا على الالتزامات التعاقدية في العقود المبرمة قبل ظهور تلك الجائحة. ومن ثمَّ، فقد ظَهَرت العديد من التساؤلات حول مصير تلك الالتزامات؛ وأظهرها وأخصها في المرحلة الحالية: التزام المستأجر بسداد الأجرة المستحقة عليه للمؤجر خلال مدة الإجراءات الاحترازية.

لَقَد ظهرت بعض الآراء القانونية في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، وكان من شأن هذه الآراء إحداث لبسٍ لدى المتلقين لها من غير المختصين في المجال القانوني؛ حيث لا يُوجد حكم عام يُطبق على جميع الحالات، بل يجب دراسة وقائع كل حالة على حدة وتكييفها التكييف الصحيح، وإنزال حكم القانون عليها.

فإذا كان الأصل العام أن العقد شريعة المتعاقدين، إلا أنَّ هذا الأصل ترد عليه بعض الاستثناءات كما في حالتيْ القوة القاهرة والظروف الطارئة، وكلاهما حدث غير مُتوقع أثناء التعاقد، ويستحيل دفعه أومنعه أو درء نتائجه.

ويكمُن الفارق بينهما في أنه في حالة القوة القاهرة يصبح تنفيذ الالتزام مستحيلًا، أما في الظروف الطارئة فلا يكون تنفيذ الالتزام مستحيلًا، ولكن مُرهِقًا ومُسبِّبًا لخسارة فادحة غير معتادة. ويختلف حكم القانون في الحالتين؛ ففي القوة القاهرة ينقضي الالتزام ويُفسخ العقد ويعود المتعاقدان للحالة التي كانا عليها قبل التعاقد. أما في الظروف الطارئة؛ فإما أن يتَّفق الطرفان على تعديل العقد، أو أن يلجأ المضرور للقضاء لرد الالتزام المرهق للحد المعقول.

ويسرِي ذلك على جميع العقود عامة. لذا، وجب البحث في وقائع كل حالة على حدة؛ لمعرفة ما إذا كان تنفيذ الالتزام التعاقدي مستحيلًا أم أنه غير مستحيل لكنه مرهق وتترتب عليه خسارة فادحة لاختلاف حكم القانون في الحالتين. فإذا أخذنا عقد الإيجار مثالًا، نجد أن القانون الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 6/89 في شأن تنظيم العلاقة بين مُلاك ومستأجري المساكن والمحال التجارية والصناعية وتسجيل عقود الإيجار الخاصة بها وتعديلاته، قد خلت مواده من أي نص يعالج مثل هذه الظروف الطارئة. لذا، وجب الرجوع لأحكام قانون المعاملات المدنية الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 29/2013؛ باعتباره صاحب الولاية القانونية العامة التي يُؤخذ بها في حال خلو الولاية القانونية الخاصة من نص يعالج أمرًا ما.

فليس صحيحًا ما يُقال عن أنَّ قانون المعاملات المدنية لا يُطبق على منازعات الإيجار، بل إنه واجب التطبيق؛ خاصة وأنه قد صدر لاحقًا على قوانين سابقة مثل قانون الإيجار، والشركات والعمل وتضمن مواد تخص هذه العقود لحكمة قدرها المشرع العماني، وقد تجلت تلك الحكمة التي يحمد المشرع العماني عليها في مثل هذه الظروف.

وحسب نص المادة (523) من قانون المعاملات المدنية، فإنَّ الأجرة تُستحق الأداء باستيفاء المنفعة أو بالقدرة على استيفائها؛ فإذا لم يستوفِ المستأجر المنفعة ولم يكن قادرًا على استيفائها لسبب لا دخل له ولا للمؤجر فيه كالإجراءات الاحترازية المتخذة لمواجهة فيروس كورونا هنا تدخَّل المشرع في المادة (550) من قانون المعاملات المدنية وفرق بين حالتين:

- الحالة الأولى: إذا كان عدم الانتفاع كليًّا تنفسخ الإجارة وتسقط الأجرة من وقت المنع؛ أي من تاريخ تطبيق الإجراء الاحترازي الذي أدى إلى منع المنفعة كليًّا.

- الحالة الثانية: إذا كان عدم الانتفاع جزئيًّا كان للمستأجر فسخ العقد وتسقط عنه الأجرة من تاريخ إخطار المؤجر بذلك.

وإذا رأى المستأجِر البقاء في العين المؤجرة لحين انتهاء جائحة كورونا، جازَ له أن يتوافق مع المؤجر على الإعفاء من القيمة الإيجارية أو تخفيضها خلال مدة الإجراءات الاحترازية، وذلك بالتراضي بين الطرفين وهو الأولى في ظل هذه الطروف العصيبة.

فإذا لم يتوصل المستأجر والمؤجر إلى اتفاق فيما بينهما، جاز للمستأجر اللجوء للمحكمة المختصة لرد الالتزام المرهق للحد المعقول عملًا بنص المادة (159) من قانون المعاملات المدنية.

ومن ثّم، فإنه لا يصح القول بسريان حكم واحد على جميع الحالات؛ حيث تَجِب معالجة كل حالة على حدة بحسب وقائعها وملابساتها.

وتوجد العديد من الالتزامات التعاقدية الناشئة عن عقود أخرى أُبرمت قبل جائحة كورونا وينطبق عليها ما سبق بيانه تفصيلًا. فإذا كان تنفيذ الالتزام مستحيلا بسبب كورونا كان بمثابة قوة قاهرة ينقضي معها الالتزام وينفسخ العقد.

وإذا كان تنفيذ الالتزام ممكنًا، لكنه مُرهق وينذر بخسارة فادحة بسبب كورونا، كان بمثابة حوادث استثنائية عامة (ظروف طارئة) جاز للمتعاقد اللجوء للمحكمة لرد الالتزام المرهق للحد المعقول.

ومن نافلة القول أن نُذكّر بالقاعدة الأصولية "لا ضرر ولا ضرار"؛ فيجب على الجميع الارتقاء لمستوى الحدث والتكاتف لرفع تلك الآثار الناجمة عن تلك الجائحة بالتراضي والتعاون.

والله أسأل أن يحفظ البلاد والعباد من كل مكروه وسوء.

تعليق عبر الفيس بوك