لكنك الآن أحسن حالا من فرعون وكسرى وقيصر!


د. مجدي العفيفي

(1)
كنت أزور العالم والمفكر الجليل الدكتور مصطفى محمود بين حين وحين في أيامه الأخيرة، وكان قبلها بسنوات قد زهد في الدنيا. وآثر أن يقضي ما تبقى من عمره في غرفة على سطح «مسجد محمود» الذي يحمل اسم والده رحمهما الله.
كانت تربطني به علاقة تجاوزت الإطار الصحفي إلى علاقة صداقة قوية ذات آفاق فكر في اللامفكر فيه، وتفكير في إثارة الأسئلة المسكوت عنها في الدين والدنيا.
تعود هذه العلاقة إلى أواخر عقد السبيعينيات أيام كان يعيش في شقته المطلة على النيل بحي الزمالك، وكم كنَّا ننزل إلى الشاطئ ونجلس طويلاً إذ كان يهوى الصيد وكان يقول إنه يعلم لعبة الصبر الطويلة، ذلك المسجد شهدتُ بداية تشييده، ثم متوالياته الإنسانية ذات الأبعاد الخيرية، وكنَّا نصلي كثيرا في هذا المكان الذي يعبق بروحانيات ذات ذبذبات عالية لا يُدركها إلا العالمون.
أتذكر أيامها أني كنت أنشر في (الأخبار) سلسلة موضوعات مصورة بعنوان ( 24 ساعة في حياة كاتب) وظلت السلسلة عاماً كاملاً كنت في كل مرة مع كاتب من كتابنا العمالقة: توفيق الحيكم، نجيب محفوظ، زكي نجيب محمود، يوسف إدريس، إحسان عبد القدوس، حسين مؤنس، ثروت أباظة، رشاد رشدي، نعمات أحمد فؤاد، بنت الشاطئ، وغيرهم. إذ كنت أسعى إلى رسم صورة صحفية لهؤلاء العمالقة بعيدا عن الإطار التقليدي فهم عظماء من أنفسنا، ومن حق النَّاس أن يعرفوا بعضا من حيواتهم عن قرب، وكانت الأخبار تفرد صفحة أسبوعية لهذه اللقاءات كل يوم أربعاء (أخبار الأدب) التي تحولت بعد إلى جريدة أسبوعية، وشاء الله أن أكون رئيس تحريرها عام ٢٠١٢.
(٢)
كان حظ مصطفى محمود وفيرا من هذه الرؤية، لاسيما أنه كان يقدم برنامجه التليفزيوني الشهير (العلم والإيمان) وكان «مانشيت» اللقاء الصحفي معه .. (في بيت المفكر الذي جعل العلم وسيلة للوصول إلى الإيمان)
حين زرت مصطفى محمود، وجدت شخصاً زاهداً في كل شيء، سرير صغير وبعض الأوراق وقلم.. "وبس" !.
تجاذبنا أطراف الحديث وكنت أحاول استقطار بعض رحيق تجربته الحياتية والتحولات التي حدثت له في العشر سنوات الأخيرة.
ولا أزال أتذكر هذه الأطروحة وأنا أستعيد أوراقا من ملفات ذات عمر طويل وبعيد، وهي مخطوطات لثلة من عمالقة الفكر والثقافة والإبداع في مصر خاصة والعالم العربي عمومًا، وأعكف الآن على وضع اللمسات الأخيرة عليها لتخرج إلى النور.
جاء في هذه الأوراق للدكتور مصطفى محمود:« لا تصدقني إذا قلت لك إنك تعيش حياة أكثر بذخًا من حياة كسرى .. وإنك أكثر ترفًا من إمبراطور فارس وقيصر الرومان. وفرعون مصر .. ولكنها الحقيقة .
(٣)
إن أقصى ما استطاع فرعون مصر أن يقتنيه من وسائل النقل كان عربة كارو يجرها حصان.
 وأنت عندك عربة خاصة، وتستطيع أن تركب قطارا، وتحجز مقعدا في طائرة.وإمبراطور فارس كان يضيء قصره بالشموع وقناديل الزيت.. وأنت تضيء بيتك بالكهرباء !وقيصر الروماني كان يشرب من السقا .. ويحمل إليه الماء في القرب وأنت تشرب مياهاً مرشحة من حنفيات ويجري إليك الماء في أنابيب.
 والإمبراطور غليوم كان عنده أراجوز..
وأنت عندك تليفزيون يُسليك بمليون أراجوز.
ولويس الرابع عشر كان عنده طباخ يقدم أفخر أصناف المطبخ الفرنسي ..
وأنت تحت بيتك مطعم فرنسي، ومطعم صيني، ومطعم ألماني، ومطعم ياباني، ومحل محشي، ومحل كشري، ومسمط، ومصنع مخللات ومُعلبات، ومربات وحلويات.
ومراوح ريش النعام التي كان يروح بها العبيد على وجه الخليفة في قيظ الصيف ولهيب آب، عندك الآن مكانها مكيفات هواء تحول بيتك إلى جنة بلمسة سحرية لزر كهربائي !!
أنت إمبراطور، وكل هؤلاء الأباطرة جرابيع وهلافيت بالنسبة لك ..
ولكن يبدو أننا أباطرة غلب علينا الطمع .. ولهذا فنحن تعساء برغم النعم التي نمرح فيها ..
فمن عنده سيارة لا يستمتع بها، وإنما ينظر في حسد لمن عنده سيارتان. ومن عنده سيارتان يبكي على حاله، لأنَّ جاره يمتلك بيتا .. ومن عنده بيت يكاد يموت من الحقد والغيرة لأن فلانَّ لديه عقارات.. ومن عنده زوجة جميلة يتركها وينظر إلى زوجة جاره ..
وفي النهاية يسرق بعضنا بعضا، ويقتل بعضنا بعضا حقدا وحسدا ..
ثم نلقي بقنبلة ذرية على كل هذا الرخاء .. ونشعل النار في بيوتنا .. ثم نصرخ بأنه لا توجد عدالة اجتماعية .. ويحطم الطلبة الجامعات .. ويحطم العمال المصانع .. والحقد – وليس العدالة – هو الدافع الحقيقي وراء كل الحروب ..
 ومهما تحقق الرخاء للأفراد فسوف يقتل بعضهم بعضًا، لأن كل واحد لن ينظر إلى ما في يده، وإنما إلى ما في يد غيره، ولن يتساوى الناس أبدًا.
 فإذا ارتفع راتبك ضعفين فسوف تنظر إلى من ارتفع أجره ثلاثة أضعاف، وسوف تثور وتحتج
 لقد أصبحنا أباطرة .. تقدمنا كمدينة وتأخرنا كحضارة .. ارتقى الإنسان في معيشته.. وتخلَّف في محبته.. أنت إمبراطور .. هذا صحيح.. ولكنك أتعس إمبراطور.. إلا من رحمه الله بالرضا وعز من قال:" وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ"
(٤)
وهذه سطور من ورقة أخرى في الحديث خلق الله وأحوالهم:
 الذي يسكن في أعماق الصحراء يشكو مر الشكوى لأنه لا يجد الماء الصالح للشرب.. وساكن الزمالك الذي يجد الماء والنور والسخان والتكييف والتليفون والتليفزيون لو استمعت إليه لوجدته يشكو مر الشكوى هو الآخر من سوء الهضم والسكر والضغط.
والمليونير ساكن باريس الذي يجد كل ما يحلم به، يشكو الكآبة والخوف من الأماكن المُغلقة والوسواس والأرق والقلق.. والذي أعطاه الله الصحة والمال والزوجة الجميلة لا يعرف طعم الراحة.
والرجل الناجح المشهور النجم الذي حالفه الحظ في كل شيء وانتصر في كل معركة لم يستطع أن ينتصر على ضعفه وخضوعه للمخدر فأدمن الكوكايين وانتهى إلى الدمار.. والملك الذي يملك الأقدار والمصائر والرقاب تراه عبدا لشهوته خادماً لأطماعه ذليلا لنزواته.. وبطل المصارعة أصابه تضخم في القلب نتيجة تضخم في العضلات .
 كلنا نخرج من الدنيا بحظوظ مُتقاربة برغم ما يبدو في الظاهر من بعض الفوارق .
وبرغم غنى الأغنياء وفقر الفقراء، فمحصولهم النهائي من السعادة والشقاء الدنيوي مُتقارب، فالله يأخذ بقدر ما يُعطي، ويعوض بقدر ما يحرم، وييسر بقدر ما يعسر .
ولو دخل كل منِّا قلب الآخر لأشفق عليه، ولرأى عدل الموازين الباطنية برغم اختلال الموازين الظاهرية، ولما شعر بحسد ولا حقد ولا زهو ولا غرور .
إنما هذه القصور والجواهر والحلي واللآلئ مجرد ديكور خارجي من ورق اللعب، وفي داخل القلوب التي ترقد فيها تسكن الحسرات والآهات الملتاعة .
والحاسدون والحاقدون والمغترون والفرحون مخدوعون في الظواهر غافلون عن الحقائق .
(٥)
رحم الله الدكتور مصطفى محمود.. الذي جعل العلم وسيلة للوصول إلى الإيمان...