رفة جناح فراشة يوهان

 

 

د. سيف بن ناصر المعمري

 

حين كُنت أُدرس نظرية الكايوس (Chaou) لطلبة الدراسات العُليا في السنوات الماضية ربما لم يكونوا يتصورون كيف تظهر مسببات ونتائج هذه النظرية، التي امتدت دراستها من الجوانب الفيزيائية إلى التربوية وغيرها من العلوم، إلا أنَّ ما يمرُ به العالم حالياً من هلع كبير جراء انتشار فيروس كورونا يُعطي مثالا واضحاً كيف يُمكن أن تقود مسببات صغيرة إلى إحداث تغيرات كبرى في العالم، وعبَّر منظرو هذا النظرية تعبيرًا دقيقًا وبليغًا عن أثرها حيث قالوا إنَّ تحريك جناح الفراشة في بقعة من الأرض يقود إلى إحداث تغييرات كبرى في بقاع أخرى بعيدة عنها وهو تعبير عن وجود روابط كبرى بين الأحداث المُختلفة وأن لا شيء يحدث صدفة، فما يظهر أنه حدث نتيجة الصدفة هو في الواقع يتحرك وفق نظام من المُسببات والنتائج، وهو ما حدث مع فيروس كورونا حيث تحرك جناح الفراشة في يوهان الصينية منذ ما يقرب من ثلاثة أشهر فقط كان كفيلاً بإحداث هذه الإجراءات الكبرى في العالم التي لم يشهد لها العالم مثيلاً منذ الحربين العالميتين الأولى والثانية.

هذه النظرية ظهرت لأوَّل مرة في عام 1963م على يد عالم الرياضيات والأرصاد إدوارد لويرنتز أثناء محاولته للتنبؤ بالأحوال الجوية لفترة مُعينة، ومن ثمَّ أمتد توظيفها لفهم كثير من الأحداث التي تجري في ساحات صحية ومناخية واجتماعية وتربوية وسياسية، واليوم يبدو أننا نقرأ ما يجري في العالم من فوضى نتيجة ظهور فيروس كورونا الذي لا يرى إلا بأدوات مخبرية دقيقة في إطار هذه النظرية التي تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أنَّ هذا الحدث الذي ربط يوهان بداية، ستعم تأثيراته مختلف دول العالم، فاليوم أكثر من 120 دولة وصل إليها الفيروس، وهناك ما يقرب من 30 دولة أغلقت المدارس، ويوجد أكثر من 300 مليون طالب خارج إطار الدراسة، ناهيك عن إغلاق الدول لحدودها وسمائها وبحرها كما فعلت الدولة العظمى الولايات المتحدة الأمريكية، وهناك مدن تصفر في شوارعها وأحيائها الرياح هذه الأيام نتيجة منع التجول، هذا فضلاً عن تعليق كثير من فعاليات وأحداث العالم، لتصبح البيوت التي لا يكاد النَّاس يجلسون فيها إلا للنوم، هي الملاذات الآمنة التي يطلب من الناس البقاء فيها. مثل هذا السيناريو لو وضعناه في إحدى تلك المحاضرات التي جرت في السنوات الثمانية الماضية حول هذه النظرية لم يكن ليستوعبه أحد، لأنه سيناريو متطرف جدًا في توضيح كيف يُمكن أن تؤثر حركة جناح فراشة في عالم يفخر بوقته، وأنظمته ومؤسساته وتقدمه الذي يستطيع من خلاله أن يقف أمام أي تحدٍ كان، ولكنه لم يتمكن في هذه الظروف من استحضار تلك القوة والسرعة والدقة في وقف تأثيرات هذا الانتشار.

إنَّ تأثير النظرية لا يقف فقط عند قراءة الصورة العامة، بل يمتد اليوم إلى التعلق بسلوك إنسان يكون مسؤولاً في غسل يديه بشكل جيد، أو بالالتزام بالبقاء في بيته لو كان عائدا من بلد انتشر فيه الوباء، أو لو كان يشعر بأعراض المرض، أو عدم الرضوخ للسجن الاختياري لو كان كبيراً في السن لحماية نفسه، العالم أمله في إيقاف انتشار المرض وتأثيرات متوقفة على الإنسان العادي الذي لا يُعار عادة أي أهمية في أحداث العالم، هل كان يمكن أن نتخيل أن يكون هذا الإنسان هو المُنقذ في مثل هذه الأوضاع للعالم من الظرف الحرج جدًا الذي يمر به؟ ومن زاوية أخرى أظهر هذا الحدث هشاشة الأمن الإنساني التي يتكلم عنها كثير من السياسيين، والاقتصاديين، والعلماء، وهو أمن نسبي خاصة لا يُمكن ضمانه بأيِّ شكل خاصة في حالة الفيروسات المستجدة كورونا، ومع ذلك الشعور انطلقت حركة اللوم والنَّقد في الولايات المُتحدة، وبريطانيا وغيرها من الدول للأنظمة الصحية، وكثير أداء المسؤولين في مُواجهة الأزمات، ولا ننسى أنَّ حركة جناح الفراشة كشفت عن ذلك الشعور الإنساني في استغلال حاجات النَّاس وقت الأزمات، فمن يصدق أن تختفي هذه السلع الصحية من على أرفف الصيدليات خاصة في الدول المُتقدمة وتباع بأكثر من 20 مرة ضعف سعرها في المواقع الإلكترونية، علاوة على اختفاء السلع طويلة الأمد من حيث التخزين، وهو مشهد كنَّا نعتقد أنه غير طبيعي حين يحدث أوقات الأزمات عندنا ولكن هذه الفترة بدا مشهدا إنسانيا لا فرق بين الشرق والغرب فيه.

 

في ضوء ذلك المشهد القابل لمزيد من التطورات والنتائج، هل ستقود حالة الفوضى والارتباك التي يعيشها العالم حالياً نتيجة انتشار هذا الوباء وتحركه في الجغرافيا الإنسانية إلى ظهور أنظمة وفكر جديد للتَّعامل مع مختلف القطاعات؟ هل سيقود إلى تسريع تطبيقات التعلم عن بعد للطلبة في مُختلف المستويات؟ خاصة وأنَّ هذه أول أزمة إنسانية تقود إلى تعليق مؤسسات الدراسة على هذا النطاق؟ هل ستتحسن صحة النَّاس البدنية والنفسية من خلال الامتناع عن الروتين الحياتي اليومي الذي ألفوه سنوات طوال؟ هل سيُقلل من ضحايا حوادث الطرق والأخطاء الطبية حتى لأشهر محدودة؟ وهل سيجعل الدول أكثر إصراراً على تطوير أنظمة الصحة والطوارئ وكذلك قطاعات الغذاء لتأمين احتياجاتها أوقات الأزمات؟ هذه تساؤلات ستظهر إجاباتها حين تضع هذه الحرب الإنسانية مع كورونا أوزارها، ولا شك أنَّ هذه الحرب سيكون فيها منتصرون وخاسرون، وكل سيعمل على جرد حساباته منها، والأزمات دائمًا خير معلم، ومن يتعلم يخرج قوياً ومن لا يتعلم يظل بحاجة إلى مطرقة تخبط على جمجمته حتي يستيقظ ويفهم ما يدور حوله على حد تعبير كافكا، ونختم هذا المقال بما قاله محمود درويش في قصيدته "أثر الفراشة": أَثر الفراشة لا يُرَى/ أَثر الفراشة لا يزولُ/ هو جاذبيّةُ غامضٍ يستدرج المعنى/ ويرحلُ حين يتَّضحُ السبيلُ/ هو شامَةٌ في الضوء تومئ حين يرشدنا إلى الكلماتِ باطننا الدليلُ.