ليس سيَّان بناء الجدران والإنسان؟!

حمد بن سالم العلوي

 

تروَى قصة أنَّ الصينيين بنوا سور الصين العظيم لمنع الأعداء من دخول بلادهم، ولكن تعرَّضت الصين للغزو ثلاث مرات بعد ذلك، ولم يمنع السور العظيم تعرض البلاد للخطر، وقد أكتُشف أن العيب لم يكن في السور، وإنما في خيانة حارس باب السور، فقيل عندئذ: لا يكفي أن تبني سوراً عظيماً، وتهمل بناء الإنسان .. فذهب ذلك مثلاً، لقد نهج البعض نهج بناة سور الصين، وأهملوا بناء الإنسان، وظلوا يستجرُّون التطور الذي تعب عليه الأوائل، واكتفوا بنسبة ذلك الجهد لهم، وهذا دَيْدَن الضعفاء عندما يتسلقون على أكتاف غيرهم، وأستغرب من أولئك البسطاء الذين أبهرتهم الجدران، وظلوا ينشدون قصائد الشعر في بانيها، ولم يهتموا بالكيان من الداخل، ولم ينظروا إلى كنه ذلك المسؤول، الذي لم يبنِ شيئاً من جيبه، ولا حتى أشغل فكره فيه، وهو مُجرد مقلد لمن ليس مثله، وإنما قلد ذلك كما قلد الغراب مشية الحمامة، فلا أتقنها ولا هو أستطاع أن يعود إلى مشيته الأصلية.

إذن؛ كان الأولى بأن يجعل من الإنسان محور اهتمامه، وكان عليه أن يكون قريباً منه، ليفهم ما يدور في خلده وتفكيره، فيشدُّ بيده على يد الصحيح في عمله، ويُصلح بالتوجيه من شط بشططه عن الطريق، وأن يجعل من نفسه قدوة لمن يليه، لا أن يختبئ خلف الجدران عن رؤية الناس، فبعضهم هو قائده ورئيسه، والبعض الآخر يريدون منه الحلول لمشاكلهم، أو توصيل شكواهم ورسائلهم لمن هو أعلى منه، خاصة وأنَّ الفلسفة من وجود وظيفته هي لخدمة النَّاس والوطن، أكان ذلك بصورة مُباشرة أو غيرها، ولكن هذا الإنسان الذي أفتُرض فيه أن يكون مسؤولاً في مكانة قائد، والقائد كما يعلم الجميع، فهو ليس كالرئيس أو المدير، وإنما له صفات وميزات وملكات ذهنية عالية، وكاريزما في الشخصية كذلك، فمن أهم الصفات: صفة الإنسانية في الرحمة والرأفة، وصفة القدوة الحسنة وسرعة البديهة والذكاء والفطنة، وصفة تحديد الأهداف الرئيسية والفرعية، وصفة القدرة على تحليل المهام والتخطيط التكتيكي والاستراتيجي والتخطيط للمُستقبل، وصفة القدرة على الإشراف والمساءلة والمحاسبة، وصفة العدل عند العقاب والثواب والمكافأة، أما من لا يمتلك شيئاً من هذه السمات والصفات، فلا يسمى قائداً لاختلاف الوصف عن الموصوف، فقد يكون مجرد رئيس لا يخرج عن حدود التكليف.

وإن يشبه من شيَّد المباني والجدران للجهة التي يعمل فيها، أولئك الذين أستغلوا مناصبهم ورغم ظروف البلد القاسية، فشيَّدُوا بالمال العام البيوت القيصرية المزخرفة، فلم يخفق لهم خافق على المواطن الذي يبحث عن وسيلة رزق وستر حال، وأطلقوا العنان للجهات المسؤولة عن تنظيم الضرائب والرسوم، لكي تبتكر كل يوم قرارا بالضرائب والرسوم القاصمة لظهور المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والناشئة، وحتى الوكالات الشرعية للأيتام من الكاتب بالعدل، لم تسلم من ارتفاع الرسوم والضرائب، والتي لم ترحم ضعفهم وقلة حيلتهم، فساواهم بالتساوي بين الناس، وليس بقسطات العدل والإحسان، وما كان عدلاً بين المحتاج بحكم الضرورة، وبين الراغب في المُتاجرة وزيادة الثروة، فهؤلاء السَّابحون في المال العام بغير حكم الضرورة، نقول لهم الوطن أولى بالأموال التي بددتموها في غير وجه حق، فما كان بناؤه لغير الدولة، يجب أن يسترجع إلى منفق ماله، أما ما بني باسم الدولة لها، فيُؤخذ منه بقدر الضرورة، وما زاد عن الحاجة، يستثمر أو يؤجَّر لأغراض أخرى ذات مردود اقتصادي، وحتى تلك المنتجعات التي شاركت الحكومة في بنائها، فيجب أن تسترد ولا تتم الهدية فيها لأنها من المال العام.

إنَّ النهضة المتجددة في السيرة العُمانية المباركة، أظُّن جازماً أنها ستصحح المسار الذي أصابه الوهن والشيخوخة، وذلك خلال الفترة التي كان فيها "أعز الرجال وأنقاهم" في حالة مرضية صعبة، فأستغل ضعفاء النفوس الوضع لصالحهم وحدهم، وربما كان تهاونهم من باب المثل القائل: "لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ * عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ" فقد كان هؤلاء رحماء بينهم، وأشدَّاء على غيرهم، وقد أعمى الشيطان الرجيم بصيرتهم عن عمل لخير عُمان، وشعبها الأبيَّ الكريم، والإنسان العُماني لا تخيفه الجدران والحركات الفهلوانية، وإنما يلزمه الاحترام والسَّمت والخلق القويم، ولا يَمْتنع عن دفع المال، طالما عرف مساره ومصيره، وهو يدفع بالحال والمال من أجل عزة الوطن وكرامته، إذن فلنرفع من مقام الإنسان، ولا نجعل بناء الجدران أعلى هامة منه. 

لقد آن الأوان لوضع العَرَبة خلف الحصان لا أمامه، وقد لا يكفي أن يذهب المقصرون "عمداً" إلى بيوتهم، لأنَّ الردع لا يأت أحياناً بالإماءة فلابد من التكويح، والعقوبة من جنس الفعل، أما من كانت الوظيفة أكبر منه، فذلك كان سبب تقصيره، فعلته الضعف وقلة الحيلة. إن الذي يطمئننا بحسن مسار النهضة القابوسية المباركة، تولي حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله وأعزه وأبقاه- مقاليد الأمور، وهو سليل دوح حكم رشيد في أسرة البوسعيد الكريمة، وأنَّ جلالته كان يعيشُ عيشةٌ لصيقة بالحكم، وكان يرقب الأمور بعين بصيرة حكيمة، فصار بحكم ذلك القرب، محيطاً بما يدور داخل الدولة، وهذه الكياسة والحكمة في إدارة البلاد، تجعل الجميع يطمئن ويستبشر خيراً لعُمان وشعبها الكريم.

عاش جلالة السلطان المفدى.. وعاشت عُمان في عزٍّ ووئام.. والحمد لله ربِّ العالمين.