الذين صنعتهم الكراسي

 

مسعود الحمداني

 

مسؤولٌ صغيرٌ أصبح (كبيرا) فجأة، ثريّا دون مقدمات، مبجّلا بعد هوان، ومحترما بعد امتهان، استطاع خلال سنوات جلوسه على كرسي الوظيفة أن يصبح ذا شأن، وذا ثروةٍ لا يُستهان بها، كَسَر كل قواعد الفيزياء والمنطق، واستغل نظريات الرياضيات بذكاء، ولعلّه قرأ عن الفقير الذي أصبح مليونيرا، فاقتفى أثره، وهكذا صار في غضون أعوام قليلة من جلوسه على كرسي المسؤولية، شخصا يمتلك عدة ملايين، وفلل في كل مكان، ومزارع عامرة، وبنايات شامخة، وعلاقات في كل مكان.

هذا النموذج من المسؤولين موجود بيننا، يقتاتون على الأخضر واليابس، لا يمتلكون مواهب خاصة، ولا قدرات استثنائية، ولكن لديهم قدرة على استغلال الفرص، والوصول بشتى الطرق وأسرعها لبناء "مستقبلهم" الذاتي، حتى ولو كان ذلك على حساب الوطن والناس، ولعلّ الأقدار شاءت أن يصبحوا في موقع حسّاس، فجعلوا منه منجما للفرص، واستغلالَ الوظيفة، نعرف بعضهم، ونجهل أكثرهم، ولكننا نشعر بهم، وتنكشف أوراق القليل منهم في المحاكم، هذا إنْ اُكتشفوا في الأساس، لأن كثيرا منهم لديه من الذكاء ما يجعله في منأى عن قبضة القانون، وبعيدا عن الشبهات، بل لا يخجل أن يردد شعارات الوطنية، والانتصار للفقراء والمساكين، وهو أبعد ما يكون عن حتى عن الصدقات عليهم!

هذه حقيقة نعيشها، ونشاهد أبطالها يصولون ويجولون بيننا، ونندهش من تلك السرعة الصاروخية التي وصلوا بها إلى القمة بأقل مجهود، وأقصر الطرق، فالمنصب أحيانا وسيلة ناجعة لبناء المستقبل الذهبي، فالجميع يخطب ود هذا المسؤول أو ذاك، ويقدّم العروض المغرية لهم، لأنهم أصحاب قرار، أو يستطيعون أن يؤثروا على صاحب القرار، ويغدق هؤلاء المتذلّفون الهدايا والهبات على أولئك المسؤولين، ليس من أجل سواد عيونهم بالطبع، ولكن لتمرير صفقات مشبوهة، أو السكوت عن جريمة مالية، أو غض الطرف عن مخالفة جسيمة، وكل شيء بمقابل، لذلك يكبر الصغار، ويتلاعبون بأقدار الوطن والمواطن، ويستغلون وظيفتهم لأغراض شخصية، ولا يهم إن جاءت الثروة من ملاكٍ أو من فم الشيطان.

افتحوا ملفات مسؤولين صغار وكبار؛ لم يكونوا يمتلكون شيئا قبل استلام مناصبهم، وفجأة تضخّمت أرصدتهم البنكية، وكبرت مشاريعهم، وتعددت شراكاتهم، وتوزعت ثرواتهم بين شركات لا يفقهون عن أنشطتها شيئا، وأصبحت مقولة "المسؤول السوبرمان" تنطبق على حال كثير من هؤلاء، فهم رؤساء مجالس أو أعضاء في لجان لا عد لها ولا حصر، وكأن البلد عقمت أن تلد كفاءات بمثل قدراتهم العبقرية، لقد آن الأوان لتفعيل قاعدة "من أين لك هذا.. أيّها المسؤول؟!!" ولكم في الدول المتقدمة قدوة حسنة، لأنّ الفساد الإداري والمالي إذا استشرى في بلد ولم يتم استئصاله كبر حتى استحال بتره، وهو إهدار للمال العام، وإحباط لقدرات الشباب الطموح، بل وتشجيع للجريمة بالسكوت عنها، أو السماح لها بالاستفحال، وفوق كل ذلك تضييع لحقوق الوطن، وإهانة لا تغتفر للمواطن البسيط والكادح والشريف.

ولعل ما ينطبق على هذه الحالات تلك الحادثة التي رُويت عن النبي صلى الله عليه وسلم حين ولّى رجلا جمْع الصدقات من إحدى القبائل، فلما جاء ليحاسبه، قال الرجل: (هذا مالي، وهذه هدية).. فقال الرسول الكريم: "فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك؟!!"، وهي جملة قد تلخص ما نرمي إليه، فهؤلاء المسؤولون الذين تكسّبوا من كراسيّهم ومناصبهم يستحقون المحاسبة، والعقوبة إن ثبت عليهم استغلالهم لمناصبهم ونفوذهم من أجل الإثراء غير المشروع، فـ"الوظيفة أمانة ومسؤولية قبل أن تكون نفوذا أو سلطة"، فاحفظوا حقوقها أو اعتزلوها.

وتحية لكل الشرفاء في هذا الوطن الذين يكافحون ليل نهار لبنائه، ولتأمين لقمة العيش لصغارهم، رغم أنف المتاجرين باسم الوطن، والوطنية.