إلى طيِّب المعاني وساكن المحَانِي

عائشة بنت أحمد البلوشية

عصاني قلمي، وأبى إلا أن يعيش حدادا كتابي؛ فرفض وانزوى يَئن ألم الفقد، أخذت أقلب كتابي "ما بين رحلتين"، وأعود إلى مقالاتي التي بدأتها منذ العام 2014م، لأتنسَّم عطرَ وجود ذلك الراحل الباقي، بين أحرفها، وأنا ما زلت أعيش حالة اللهفة أن ما أُلقِي على سمعي يوم الجمعة العاشر من شهر يناير غير صحيح، وأن من كان حبُّه سببا في خروج بنات أفكاري إلى الملأ لا يزال موجودا بيننا، سيدي وأبي ومولاي قابوس بن سعيد، طبت مقاما وطيَّب الله مرقدك بمسك الفردوس الأعلى، لا زالت القلوب تنزفك وستظل، وما انفكت المآقي تذرفك وستبقى، كيف لي أن أستوعب أن أربعين الحداد حلت ورحلت؟! وأنا لا أزال أعيش حالة اللا استيعاب؛ فاللهم صبرا، اللهم جبرا، اللهم قوة.

في أحد أيام يناير من العام 1974م، وبعد أن تكونت نواة التوجيه المعنوي لقوات السلطان المسلحة، حمل النقيب (حينها) سالم بن عبدالله الغزالي (تقلد مناصب وزارية في عهد مولانا حضرة صاحب الجلالة -جعله آلله في عليين) أوراق عمل، وذهب للقاء المقام السامي قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- وكان من ضِمن ما حمل معه مسودة من أربع عشرة ورقة كمقترح لأول عدد لمجلة عسكرية، تحمل مواضيع معنية بقوات السلطان المسلحة، ومعها أيضا مقترح من خمسة مسميات لتلك المجلة، فظلت تلك المسودة لدى المقام السامي -رحمه الله- مدة ثلاثة أيام، ثم وعندما استلمها -معالي سالم الغزالي- وبلهفة المحب الذي أراد أن يعرف انطباع سيده الحبيب عن ذلك المقترح، أخذ يقلب الصفحات ليرى خطه الأنيق الذي تعود أن يراه مرتسما في الهوامش أو حواشي الصفحات، معلقا على جملة، أو معدلا لكلمة، أو موجها بعمل ما، فوجده قد خط بيمينه مسمَّى المجلة باسم لم يكن ضمن الأسماء الخمسة المقترحة؛ ليصبح اسمها "جند عمان" منذ تلك اللحظة وحتى اليوم، ثم وفي إحدى الصفحات جاء معلقا بتعليق أذهله، إذ إنه -طيب الله ثراه- أشار إلى جُملة وردت في أحد أخبار تدريب كوادر قوات السلطان المسلحة، بأن: "هذا التدريب سوف يخلق جيلا........"، وقد وضع ملاحظة باستبدال الفعل "يخلق" بكلمة أخرى، فالخلق من أفعال الله تعالى وحده، وأننا نحن البشر لا نرتقي إلى تلك المنزلة، فتأثر ذلك النقيب الممتلئ شبابا وحماسا بتلك الملاحظة الثاقبة، وشدَّه جدا أن هذا السلطان قد أفرد مساحة من وقته رغم الحرب الدائرة حينها، والنزاعات التي يئن الوطن من عمق جراحها، وقرأ بتمعن كل كلمة في المسودة، كما كان لتلك الملاحظة الأثر الواضح في حياته الشخصية والعملية، فبالرغم من أن الكثير يستخدمون تلك الكلمة، إلا أن جمال أدب السلطان مع ربه قد فاق الوصف، فهو كما جاء في مذكرات الكاتب الراحل "جلال كشك" عندما سأله: لمَ لا تجعلون اللقب الذي تحملونه أكثر عصرية؛ لأن لقب السلطان ليس كذلك، فتحولون عمان إلى مملكة؟ فكان رده الجميل مبتدئا بـ"الملك لله..."، وهذا ينمُّ عن قِمة الرقي في التعامل مع الله تعالى، وحتى في دعائه -رحمه الله وأضاء مرقده بنور ربه إلى يوم الدين- يقدم لفظ الجلالة قبل المسألة، فتارة يقول: "والله تعالى نسأل"، وأخرى يقول: "والله تعالى ندعو" وما هذا إلا دليل الحياء من الله، وخشيته من أن تتقدم المسألة على جلال الله تعالى.

مولاي الذي تشكلت الخلايا برسمه وغدت له موطنا، وسيدي الذي جعل بحبه الحنايا مسكنا، عيب على من أحبتك قائدا وأبا ونبراسا ومعلما ورمزا أن لا تتحلى ولو بالنزر البسيط من أخلاقكم الراقية الدمثة، فحرصكم مولاي على أن لا تتصفون بأي صفة ربانية، وأن يكون تعاملكم مع الخالق بأدب جم، يجعلني أدس حزني في قلبي، على عهد لكم بأنكم حاضرون في أخلاق كل عماني، قولا وفعلا، وأننا سنلتف بحب حول قائدنا المفدى حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه- وسنخدمه بكل إخلاص وتفانٍ، وأننا سنستمر في مسيرة التنمية لنصل بعمان إلى أرقى المنازل، وأن نحافظ على المكانة العالمية التي أوصلتنا لها، فنم قرير العين يا حبة القلب، فالهيثم الذي ارتضيته لنا سلطانا، سيكرم أيتامك الذين لوعهم فراقك وروعهم فقدك، وسيرعى بلادك بحب كما وعدتنا فوفيت.

---------------------------

توقيع:

"مولاي حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، شعبكم يعاهدكم: "ماضون خلفك لا شقاق ولا فتن".