مدرين المكتومية
على مر العصور والفلاسفة والمفكرون يتبارون في معرفة وتفسير حقيقة "الجمال" تلك المفردة الجميلة في حد ذاتها، ورغم أنّها تضم في إيقاعها الصوتي لامين وهي حروف صعبة النطق إلى حد ما بجانب الجيم والميم، لكن يظل التفوّه بها بسيطا ويخرج من أعماق النفس، ولذا يبقى الاختلاف على معنى ومفهوم بل ودلالات وآليات قياس الجمال نسبية، وغير مطلقة، تتباين من شخص لآخر، وتتفاوت من عين لأخرى، ومن ذائقة لنقيضها.
والجمال ببساطة شديدة- من وجهة نظري- أن ترى الأشياء على حقيقتها دون تجميل، وأن يتصرّف المرء على سجيته دون افتعال أو اصطناع، ولذلك يصير الكون جميلا عندما نراه نحن جميلا بأعيننا ووعينا، لا بأعين غيرنا ووعي الآخرين. الجمال نسبي بلا شك، وقد يتواجد في مواضع عدة، فما أراه جميلا في موضع ما، قد يراه الآخر غير جميل في نفس الموضع أيضا، وربما لو اختلفت المواضع لاختلفت ذائقة الجمال أيضا.
الجمال يتجلّى في الأمور البسيطة، وليست المعقدة، فأنا أرى الجمال في دفء الحب، وروعة اللقاء مع الأحبة، أتلمّس الجمال في قصيدة عشق تغمرني بلهيب الحب، أتحسس الجمال في صباح شتوي على ضفاف البحر والموج يتلاطم بحواف الصخور، أرى الجمال في "لقاء مستحيل" مع إنسان يحمل في نفسه الحب والشوق، أؤمن بالجمال في لوحة فنية بسيطة تتوسطها الشمس البرتقالية وتتقاطع مع شعاعها السحب والغيوم في يوم خريفي يوشك أن تتساقط فيه الأمطار فتبلل التربة وتنثر شذى عطر الأرض في كل مكان.
والجمال جوهر الشعور، فما نحبه من مشاعر نابع من كونها جميلة، وتلك المشاعر الجميلة إذا ما دقت على أبواب قلوبنا دخلت تلقائيا دون استئذان، والإنسان دون مشاعر كجلمود صخر، لا يأبه للآخرين ولا يشعر بهم، بل يصير جمادًا دون أحاسيس أو عواطف، ولذا عندما يتلمّس المرء الجمال من حوله فإنّه يمارس إنسانيّته، ويُعلي من شأنها.
والإنسان دائما ما يبحث عن المجهول البعيد، يريد دوما الوصول إلى الغامض في النفوس والأشياء من حوله، لكن أكثر ما يبحث عنه هو الجمال، فالإنسان في حالة بحث دائم دون توقف عن هذا الجمال، وكأنّه على موعد سيصنع الفارق له.. والبعض يبحث عن الجمال الذي لا يمكن أن يلتقيه عبثا، فحتى الجمال يريد أن يحصل عليه وفق مقاييسه الخاصة، إذ أنّ كل شخص له خيارته وتطلعاته واهتماماته في الجمال الذي يريده. ورغم ذلك أرى أنّ علينا جميعا أن نبحث عن الجمال في نفوسنا أولا، ثم نبحث عنه في المحيطين بنا، وعندما ندركه نستحث فيهم هذا الجمال، وننهل من عطاياهم الجميلة، التي تجعلنا سعداء.
وعندما أتحدثُ عن الجمال فإنني أعود للوراء؛ لأصل إلى شعراء الزمن الجاهلي الذين تغنوا بجمال كل ما يحيط بهم، من النساء والمشروبات، والليل والنهار، والشروق والغروب، والخيول والنوق، وحتى الماء والنار، كل تلك الثنائيات الشعرية والمتناقضات، كانت تقودهم ببلاغتهم نحو إدراك معاني الجمال، نحو السعادة نحو الأمل في غد أجمل، كان الجمال محور اهتمام كتاباتهم الشعرية؛ لأنّ العربية لغتنا الجميلة، ينعكس تأثيرها على مخيلة الشعراء ورؤيتهم للأحداث والشخصيات التي يلتقونها في رحلتهم نحو المجهول، بحثا عن الجمال!
وبما أنّي ذهبت إلى واحة الشعراء فلابد أن أذكر البيت القائل: "فإذا وقفت أمام حسنك صامتاً// فالصمتُ في حَرَم الجمال جمالُ"، هنا الجمال حالة غير مفهومة، لحظة صمت خارج حدود الزمان والمكان، رحلة في الفضاء البعيد داخل المخيلة البشرية، تلك الرحلة لا يصل إليها سوى من أدرك أنّ للجمال معاني عدة، وأنّ للجمال وسائل مختلفة للوصول إليه، ومعانقته والارتكان إلى كنفه الآمن.
إننا إذا ما أردنا أن نختبر رؤيتنا للجمال، نتساءل عن شيء معين ونرى مقاييس جماله في عيون الآخرين، وعندئذ سنجد التفاوت والاختلاف في ردود الأفعال بين الخيارات، وسنجد لكل شخص رؤيته في مفاهيم الجمال، لكن الجميع يتفق على أنّ عملية البحث عن الجمال لا ينبغي أن تتوقف، فالباحث عن الجمال هو باحث عن الحياة، باحث عن الروح، باحث عن الألفة، باحث عن الدفء والحب.. فلا تتنازلوا عن الجمال، مهما كانت طبيعته في عيونكم، واسعوا وراء كل جميل ترون الحياة أجمل وأجمل.