السلطان قابوس وشيمة التسامح العظيمة

 

مسعود الحمداني

 

سلطنة عُمان صديقة الجميع، هذا ما تجلّى واضحًا في عزاء المغفور له بإذن الله السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور- طيّب الله ثراه- حين شاهدنا وصول مواكب كل الفرقاء إلى أرض عُمان، فكانت السلطنة نموذجًا فريدًا في العلاقات الدولية المتوازنة، ووضع الجميع خلافاتهم جانبًا، وقدموا زرافات ووحدانا لتقديم واجب العزاء، ولعل في الجلسة التأبينية التي عُقدت في مقر الأمم المُتحدة ما يُثير الإعجاب على كم التقدير والاحترام الذي حظي به السلطان الراحل، وبالتالي تحظى به السلطنة نتيجة لسياساته المُحايدة والمتزنة، والمتوازنة، فلم يجعل- رحمه الله- للعدو مدخلاً لعداوته، ولم يعط فرصة لمُثيري نار الفتنة بالاشتعال، بل أخمد كل ذلك برؤية حصيفة، ونظرة ثاقبة، وتسامح عظيم لا سقف له، ولا حدود، دون تنازلات، ودون الإخلال بالثوابت الوطنية، فكان ذلك مثار إعجاب وتقدير الجميع.

(2)

سعة صدر السُّلطان الراحل، وحلمه، وإنسانيته تجلت في الكثير من المواقف التي شاهدها الناس، عرفوا بعضها، وجهلوا أكثرها، وكلنا نذكر ذلك الموقف الإنساني الحليم في إحدى جولاته السامية في الولايات حين هَمّ أحد الجالسين باختراق الصفوف جهلاً منه، وحين أراد الحراس منعه، جاء صوت جلالته بكل بساطة: "خلّوه.. خلّوه ما فاهم.." ليُعطي صورة واضحة رغم بساطة الموقف على الطريقة الأبويّة التي يتعامل بها جلالته رحمه الله مع أبناء شعبه، وسعة صدره، ونظرته لعقول النَّاس وبساطتهم.

كما اتضح هذا التسامح والصفح الجميل في عفوه الشامل عن المنضمّين لتنظيم الإخوان المسلمين في التسعينيات، وكذلك عن أولئك المتهمين بالانضمام للتنظيم الذي اتهم بالتخطيط (لقلب نظام الحكم) في 2005، بل إن الحكومة لم تقف حجر عثرة في توظيف معظمهم في القطاعات المختلفة بسبب موقفهم السياسي، ولو أنَّ هذا حصل في دولة أخرى لبقي كل من شارك في تنظيم مُماثل في القائمة السوداء، بل وشمل الحظر حتى عائلاتهم.

(3)

ولعل أعظم عبارة قالها جلالته- رحمه الله- تلك العبارة التي خاطب بها جلالته أبناء شعبه في وقت كانت البلاد تموج بالتيارات المختلفة، وتتلاطم فيها الحركات المناوئة للحكم، غير أنَّ عهدا جديدا قد أشرق على عُمان، فقال جلالته لأولئك المناوئين للحكومة المركزية: "...عفا الله عمّا سلف، عفا الله عمّا سلف.." وهي عبارة تتجلّى فيها روح السلام، والدعوة لتوحيد الجهد لقهر أعداء الشعب الحقيقيين، وهم الجهل والفقر والمرض، ولم يبدأ عهده بالتهديد والوعيد، بل بدأه بالسلام والتسامح والصفح الجميل.

(4)

كما كانت طريقة ترسيم الحدود مع الدول المُجاورة، وعدم التعنّت في معالجة الأمور في المفاوضات، بل وسمو روح التسامح التي غلّبت المصلحة العامة لعُمان على ما سواها واحدة من أعظم الدروس التي أذابت الخلافات، وسرّعت بعملية التفاوض، وأنهت عملية الترسيم على أكمل وجه.

(5)

إنَّ شيمة التسامح التي اتِّسم بها السُّلطان قابوس- طيّب الله ثراه- لم تنفصل عن شخصيته الإنسانية، وجاءت لتعطي الآخر فرصة لكي يُراجع نفسه، ويُعيد حساباته، ولعل المجال لا يسع تلك المواقف التي تجلّت فيها حكمة جلالته، وحضر فيها ذلك الصفح الجميل حتى عن أولئك الذين أساءوا إليه، لأنه يعلم قيمته، ويعرف مكانته، ولا يقلل الكلام من هيبته، ولا يهز كيانه، وهكذا هم العظماء الحكماء الذين يقودون سفينة السلام، ويوجهون بوصلة العالم، ويعلّمون الناس النُبل والأخلاق الكريمة، أولئك الذين لا تنفصل أفعالهم عن أقوالهم، وحياتهم عن واقعهم.

رحم الله السلطان قابوس بن سعيد، وجعل عهد جلالة السلطان هيثم بن طارق المُعظم- أيّده الله- شمسًا تضيء العالم، حاملا الخير كله لعُمان وشعبها الكريم.