"صفقة القرن" الأمريكية.. ما أشبه الليلة بالبارحة

 

عبيدلي العبيدلي

 

على الطريقة العربية، كان علينا أن ننتظر إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عما أسماه "صفقة القرن"، والتي هي في جوهرها تكشف عن المشروع الأمريكي للصراع العربي – الصهيوني، حيث تناولت "الصفقة" أيضًا الأراضي العربية التي احتلها الكيان الصهيوني بعد حرب 1967، مثل الجولان، كي نشهد توالي ردود الفعل العربية. وقبل تلخيص ردود الفعل تلك، لابد من التأكيد على حقيقة واحدة، والتي ربما تكون أشد مرارة من العلقم، وهي أن الإعلان عن صفقة القرن ها لم يكن مفاجأة، بل وكما تتحدث جميع المصادر المتابعة لمسارات الصراع الفلسطيني – الصهيوني، وكما لا تنكرها إدارة البيت الأبيض، هي نتاج "جهود" أمريكية، استغرقت ما يقارب الأربع سنوات.

فقد "عكفت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منذ 2017 على إعداد خطة للسلام في الشرق الأوسط لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، على أن يتم تقديمها رسمياً مطلع 2018، وتم تأجيل ذلك عدة مرات".

وقد أشارت العديد من المصادر المتابعة للصراع الفلسطيني الصهيوني، خلال تلك الفترة أن وثيقة صفقة العصر، التي تلخصت في 80 صفحة كانت في الأصل "ما بين 175 و200 صفحة". ووفقاً لاستطلاع أجرته صحيفة "هاآرتس"، في خضم فترة ردود الفعل التي أثارتها تلك الصفقة، وأثناء فترة التسريبات التي تحدثت عنها، "يعتقد 44 في المائة من المشاركين أنَّ الصفقة لصالح إسرائيل بينما يعتقد 7 في المائة أن الصفقة تحبذ الفلسطينيين".

وفي مثل هذه النتيجة التي توصلت لها تلك الصحيفة الكثير من العبر، عندما ندرك أن من شارك في الاستفتاء هم أفراد من مجتمع الكيان الصهيوني.

ويكشف التلخيص الذي أورده موقع "اليورو نيوز euronews " لتلك الصفقة أن العدو الصهيوني هو المستفيد الحقيقي منها، كما تؤكده، على نحو لا يقبل المناقشة، ولا يحتمل الشك، نقاط ذاك الملخص التي تنص على ما يلي: 

القدس عاصمة موحدة لإسرائيل.

الاعتراف بالمستوطنات في الضفة الغربية.

موافقة إسرائيلية لتجميد البناء في المستوطنات لأربع سنوات، مع بدء المفاوضات بشأن دولة فلسطينية.

وحدة أراض جغرافية للدولة الفلسطينية وإقامة سفارة أمريكية فيها.

تواصل جغرافي بين قطاع غزة والضفة الغربية.

إقامة دولة فلسطينية عاصمتها في القدس الشرقية.

المحافظة على الوضع الراهن فيما يتعلق بالبلدة القديمة في القدس.

"القدس الإسرائيلية" سيتم فصلها بجدار، والضواحي خلف الجدار ستكون تحت سيادة فلسطينية.

40% من الضفة الغربية فلسطينية.

30% من الضفة الغربية (غور الأردن وكل المستوطنات والطرقات التي تؤدي إلى هذه المستوطنات) هي تحت سيادة إسرائيلية.

رصد 50 مليار دولار للدولة الفلسطينية المقبلة.

عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى الدولة الفلسطينية فقط، مع تخصيص صندوق تعويضات.

ليس هناك ما يدعو لمحاولة الاجتهاد لشرح نقاط ذلك الملخص، فهي تفصح عن نفسها بوضوح الشمس، أنها تتجاوز كل ما اغتصبه الصهيوني من حقوق فلسطينية، في ظل اختلال موازين القوى لصالحه، في أعقاب حربي 1948، و1967. وتسعى لأن تفرض، ولصالح الكيان الصهيوني، ما عجز هو عن تحقيقه خلال ما يزيد على نصف قرن من الاحتلال الغاشم.

ما ينبغي التوقف عنده هنا، هو ردود الفعل العربية، التي تفاوتت بين 3 رئيسة يمكن تلخيصها على النحو التالي:

موافقة خجولة، متدثرة بمقولة "القبول بالأمر الواقع"، مبررة ذلك بالرضوخ لسياسة ما يفرضه الاختلال في موازين القوى لصالح العدو الصهيوني.

الشجب العاطفي، والكلمات العنيفة المنددة، التي تنطلق من عجز مبطن، يرفض صاحبه الاعتراف به، ويطليه بتلك الشعارات الصارخة التي لا يتجاوز تأثيرها مدى صدى الصوت الذي تردده جدران الغرف التي انطلقت منها تلك الصرخات.

حياد غير مبرر، يحاول أن يضفي على نفسه سمة "الموضوعية" أو العقلانية.

مصارحة النفس تقتضي الاعتراف بأن تأثيرات تلك المواقف الثلاثة لا تحمل زيادة أي ثقل للصالح الفلسطيني، عند الحديث عن موازين القوى بين الأطراف الضالعة في ذلك الصراع أو تلك التي يمسها مستقبل القضية الفلسطينية، التي ليست هناك قضية شعب تماثلها في الحقوق المغتصبة.

وقراءة متأنية، غير مُنفعلة، لردود الفعل العربية تؤكد، وهو أمر يثير في النفس آلاما حادة، تكشف أنَّ مثل تلك الردود لن تستطيع أن تصمد أمام مشروع جرت صياغته بعناية فائقة، توقفت، كما تكشف بنوده، حتى عند أدق التفاصيل التي تضمن رجحان كفة العدو الصهيوني على حساب الحقوق المعترف بها دولياً للشعب الفلسطيني.

ومن ثم، ونحن هنا لا نروج لنزعة تيئيسية، ولا ندعو لسياسة انهزامية، كما قد يتراءى للبعض، بل نضع الأمور في نصابها، ونسلط الضوء على الحقائق مهما بلغت مرارتها. لكننا نشير إلى ضرورة مغادرة مثل ردود الفعل العربية تلك، التي ساهمت في أن تصل القضية الفلسطينية إلى ما وصلت إليه اليوم. وأكثر من ذلك لا نعتقد أن الفرصة قد فاتت، ولم يعد في الإمكان أحسن مما كان. فحقوق الشعب الفلسطيني مسألة لم تنكرها القوانين الدولية، واغتصاب العدو للأراضي الفلسطينية، وما رافقها من مصادرة غاشمة لتلك الحقوق أمر تقره المواثيق العالمية. بل ويفرضه منطق التاريخ السليم غير المزور.

لكن تحقيق ذلك يستدعي وضع الخطط القابلة للتنفيذ، مهما بلغت صعوبة ذلك التنفيذ، ويقتضي العض على الجراح، مهما كان ذلك العض مؤلما. ومصارحة النفس، بغض النظر عن الآلام التي تولدها تلك الصراحة، والاعتماد على الذات، مهما تطلب ذلك من تضحيات

وليس هناك من يختلف في أن الخطوة الاستراتيجية الأولى، غير القابلة للنقاش هي إعادة ترتيب البيت الفلسطيني من الداخل، التي تبدأ بوضع الخلافات الفلسطينية – الفلسطينية جانبا، مهما بلغت تلك الخلافات، فهي لا ينبغي لها أن تصل إلى مستوى التناقض الرئيس بين الشعب الفلسطيني برمته والعدو الصهيوني بكل جبروته.

فما لم ينجح الفلسطينيون في الوقوف في وجه تلك "الصفقة" صفا واحدا، يدافع عن قضيته بمشروع فلسطيني موحد، ستتهاوى أمام ذلك التماسك الصهيوني، أية مشروعات أخرى، نجحت في التسلل لذلك البيت الفلسطيني وتجيير خططه لمشروعاتها الخاصة.

وما لم يتحقق ذلك فليس أمامنا سوى العودة لمشروعاتنا العربية السابقة التي أثبت التاريخ عجزها، بل وهزيمتها، وهنا ستصح المقولة الصادقة، ما أشبه الليلة بالبارحة.