عبد الله العليان
يرى الأستاذ والمُفكر زكي الميلاد، في كتابه "مدخل إلى المسألة الفلسفية"، الذي أشرنا إليه في الحلقة السابقة من هذا العنوان، أن البعض من الباحثين العرب، طرح مسألة الصلة بين الدين والفلسفة، باعتبار أن الإسلام، دعا إلى التفكر والتدبر، وإلى تحريك العقول، للبحث في هذا الكون وأسراره إلخ.
وفي الفصل الرابع من هذا الكتاب، يشير الأستاذ الميلاد إلى كتاب د. محمد يوسف موسى "القرآن والفلسفة" الصادر عام 1963، وهو عبارة عن رسالة دكتوراه من جامعة السوربون بفرنسا، فيقول: "وأول ما يستوقف الانتباه في هذا الكتاب، هو عنوانه اللافت بشدة "القرآن والفلسفة"، ولعله أول كتاب في المجال العربي الحديث والمعاصر يحمل هذا العنوان، ويضع القرآن والفلسفة في حالة اقتران بصيغة ثنائية مركبة، اقتران توافق واتصال وليس تخالف وانفصال، وبشكل يثير الانتباه والدهشة، مع أنه على ما يبدو لم يستقبل بطريقة تتسم بإثارة الانتباه والدهشة، وليس هذا فحسب، بل إنه بقي خارج الانتباه، وبعيداً عن الذاكرة، وكأنه من المؤلفات التي صدرت ومرت ونسيت ولم تترك أثراً باقياً، حالة كحال عشرات أو مئات أو آلاف الكتابات والمؤلفات التي نسيت عند العرب والمسلمين مع مرور الوقت".
ويرى الأستاذ الميلاد- عن رؤية المؤلف عن هذه الأطروحة، في مسألة العلاقة بين القرآن والفلسفة- أن المؤلف يعتقد أن القرآن يدعو إلى التفكير والتفلسف، ولذلك فإنه يقترب من الفلسفة في هذا المجال، ومن هذه المنطلقات يؤكد المؤلف في هذا الكتاب: "على أن القرآن وإن دفع إلى التفكير الفلسفي، وكان المصدر الأول الذي استوحاه المتكلمون على اختلاف آرائهم ومذاهبهم، فإنِّه من ناحية أخرى كان حاجزاً دون ضرب آخر من التفكير الفلسفي، ويعني به التفكير الذي كان عماده الفلسفة الإغريقية، أو الذي تأثر بها إلى حد كبير، وذلك بفضل الآراء الحقة التي صدع بها القرآن، ودلل عليها في كثير من المشاكل التي كان المفكرون والفلاسفة منها في أمر مريج".
وعن انطباعات الأستاذ زكي الميلاد، عن أطروحة د. محمد يوسف موسى، مسألة العلاقة بين القرآن والفلسفة، يرى أنَّ هذا الكتاب، لو كتبه أحد الأوروبيين، أو من المستشرقين، الذين اهتموا بالشرق عموماً، لكانت شهرته كبيرة، عند العرب والمسلمين، لكن لأسباب كثيرة، ومنها ما نعيش من تخلف، ومن اعتقاد بعضنا بأن الآخر الغرب، هو الجدير بالتقييم، بحكم الغلبة والتقدم الذي يعيشه، ووضعنا نحن: "لطبيعة المفارقات الفكرية والتاريخية والحضارية الفاصلة بين الأمم والمجتمعات المتقدمة والمتخلفة". ويضيف الأستاذ الميلاد، في طرح ملاحظاته على هذا الكتاب، فيقول: "ولو كانت الفلسفة يقظة وحية في بلاد العرب والمسلمين، لتغيرت كذلك منزلة هذا الكتاب ومكانته، ولتغيرت أيضاً صور وأنماط النظر إليه، والتعامل معه، ولوجدنا فيه مكسبا فلسفيا،لا لشيء مهم وخطير في الكتاب، وإنما لأنه يستند على القرآن الكريم في الدفاع عن الفلسفة، وهو موقف نادر الحدوث عند العرب والمسلمين المعاصرين، وبهذا الشكل من الحماس والاهتمام الذي عبَّر عنه المؤلف، وبهذا النمط من المحاججة والدفاع، ومن هنا تكمن أهمية هذا الكتاب، ويبرز فيه عنصر الإثارة والدهشة ".
ومع أن الأستاذ الميلاد، له رؤية ربما مختلفة عن الباحث د. محمد يوسف موسى، في رؤيته تجاه المقولة التي قالها في هذا الكتاب، من أن "طبيعة القرآن تدعو للتفلسف"، إلا أنه نظرة أخرى في الرؤية القرآنية، التي لا يمكن حصرها في التفكير الفلسفي فقط، فيقول: "وإذا اعتبرنا أن في القرآن ما يدعو إلى إثارة التفكير الفلسفي، وأنه تعرض لأمهات المشاكل الفلسفية الإلهية والطبيعة الإنسانية، وكان من أهم العوامل التي دفعت المسلمين إلى التفلسف، فهل هذه الاعتبارات والحالات وغيرها، تجيز أو تبرهن أو تكشف عن أن طبيعة القرآن تدعو للتفلسف، أم أنها تكشف عن أن في القرآن ما يدعو للتفلسف، وليس طبيعة القرآن تدعو للتفلسف (:)، ثم ما هو المقصود من التفلسف! وهذا ما لم يتوقف عنده المؤلف ضبطاً وتحديداً، فهل المقصود بالتفلسف وهو فعل التأمل والتأويل والنظر الفكري والعقلي والتجريدي، كما توحي به هذه الكلمة في قاموس الفلسفة وناموس الفلاسفة، وهل هذا يصدق على طبيعة القرآن".
وفي الفصل الخامس من الكتاب "الدين والتحولات المعرفية والحضارية"، يطرح الكاتب زكي الميلاد، مسألة الدين، وما يُقابله من فلسفات وأفكار لها رؤى ربما تختلف عنه رؤيته في المنطلقات والأهداف، وكيف واجه الدين هذه التحولات الفكرية والفلسفية، منذ الفلسفة اليونانية، إلى الفلسفة الحديثة، فيقول:" ومع كل هذه الاختبارات المُتلاحقة، وعلى أقسامها وأنواعها والعلمية، أثبت الدين قدرة فائقة على البقاء والثبات، وبقي محافظاً على أثره وتأثيره في حياة الأمم والمجتمعات كافة، وعلى مختلف الأصعدة، وهذا ما أثار الانتباه إلى الدين، وجعله في دائرة النظر والتحليل على طول الخط، ولعل من أشد الاختبارات التي واجهت الدين في الأزمنة القديمة، الاختبار الذي مثلته الفلسفة في عصر الحضارة اليونانية القديمة وما بعدها، وهي الحضارة التي ازدهرت فيها الفلسفة، وعرفت بها، ومثلت ميلادها الأول كما سجل المؤرخون والمفكرون الذين كتبوا ودونوا لتاريخ الفلسفة في العالم القديم والحديث".
وعن العلاقة بين الدين والعلم، يرى الأستاذ الميلاد أن العلم لا شك حقق فتوحات وانتصارات كبيرة في الاختراعات، بطريقة واسعة ومتلاحقة: "والمُفارقة الغربية والمدهشة التي حصلت، أن العلم ليس فقط لم يتمكن من الإحلال مكان الدين، والاستغناء عنه، وإنما كان سببًا في عودة سؤال الدين من جديد، في دلالة واضحة على أن العلم بكل مستوياته ودرجاته وانتصاراته، لا يُمكن أن يحل مكان الدين، وهي حقيقة برهن عليها العلم نفسه، وليس الدين".
ويتحدث الميلاد عن علاقة الدين والحداثة، وعلاقة الدين والعولمة، وكذلك الدين والمستقبل، ويختتم هذا الكتاب بأهمية دور الدين وتأثيره في الحاضر والمستقبل، فيقول: "نحن بحاجة للدين للوقوف في وجه الحروب ومنعها ومقارعتها، وفي التصدي لظاهرة العنف بأشكالها كافة، وفي التخلص من نزعات الكراهية والتعصب والتطرف".