◄ الديمقراطية لا يُمكن أن تسبق شبكات الطرق ولا وسائل الاتصال ولا مؤسسات التعليم بكافة مراحلها
علي بن مسعود المعشني
الديمقراطية تُعرف وفق المصطلح اليوناني الإغريقي بأنَّها حكم الشعب، ويمكن أن تُفهم كذلك بأنها مُشاركة الشعب في الحكم عبر أقنية رسمية وتشريعية مُتعارف عليها، كما يُمكن أن تُفهم بأنها قواعد حكم توفر للشعب وللوطن التنمية والكرامة وصون الثوابت الوطنية والالتفاف حولها بغض النظر عن المسمى.
ومنسوب مشاركة الشعب في الحكم وتقرير مصير الوطن وتحديد مصالحه مشروط بمنسوب وعي الشعب وطور الدولة وحاجات الشعب كذلك، حيث لا يمكن القفز على الزمن ولا تجاوز مُقتضيات الزمان والمكان، كما لا يُمكن فرض حاجات بعينها على أي مجتمع ما لم يكن مُهيئًا لها وقبل ذلك محتاجاً لها. هكذا مرَّت جميع تجارب الدولة القُطرية في الغرب بمراحل الديمقراطية ومنسوب ومعايير التمثيل الشعبي في صنع القرار والمصير. يمكن لأي شعب أو مُجتمع أن يستورد أي منتج مادي وأن يتكيف معه وكأنه منتج منه، ولكن لا يُمكن لأي مجتمع أن يستورد منظومة فكرية أو روحية ويتعاطى معها بانسجام وتناغم تامين، لهذا فالديمقراطية سلة قيم بشرية تخضع لحاجات كل مجتمع وتُنسج من نسيج قيمه وثوابته ووفق خياراته ومنسوب وعيه وطور بلاده.
الغرب يُدرك أن الديمقراطية سلاح ذو حدين وخاصة الديمقراطية بوجهها الليبرالي والتي تأسست وتعاظمت وتقتات على اقتصادات باذخة وافتعال حروب وأزمات لا تنتهي، ويُدرك الغرب كذلك أن الديمقراطية لابد أن تمر بأطوار ومراحل وأن تُبنى تراكميًا، وأنها ثقافة وفكر قبل أن تصبح أدوات ومؤسسات وممارسة، كما يعلم الغرب بأن تطبيق الديمقراطية في أوساط مجتمعات وأوطان فتية ناشئة تتلمس لنفسها أبجديات التنمية والبُنى الخدمية الضرورية تعني العبثية وهدر الممكنات وتشظي لحمة المجتمع وفقد بوصلة الأولويات.
الديمقراطية لا يُمكن أن تسبق شبكات الطرق ولا وسائل الاتصال ولا مؤسسات التعليم بكافة مراحلها ولا المشافي والخدمات الصحية الجيدة ولا شبكات الصرف الصحي، الديمقراطية تأتي نتاجًا وثمرة وتتويجًا للفراغ من بناء الوجه التقني للدولة وبروز ثمارٍ ملموسة للوجه الفكري للدولة والمتمثل في وجود بنية علمية تنتج بالضرورة فئات معرفية وفكرية وثقافية متنوعة ومتخصصة قادرة على الحفاظ وتطوير المكتسب والمنتج من الوجه التقني للدولة ومؤهلة لقيادة الوعي والتأثير على العقل الجمعي إيجابًا والسير به برسوخ وتطور. الغرب يُدرك اليوم أنَّ الرهان على الزمن وحده وبدون أي تدخل أو تخطيط أنتج الكثير من عوامل البناء والمناخ الديمقراطي في الوطن العربي بالنسبة والتناسب في كل قُطر، بفعل اكتمال الكثير من عوامل الوجه التقني والفكري للدولة، وهذا يعني إنتاج ديمقراطيات وفق حاجة وطور كل مجتمع وقُطر عربي مشابهة للأوطان.
لهذا لابد للغرب من المسارعة إلى تشتيت تلك الجهود والمنجزات وتضليلها وحرف مسارها عن الديمقراطية إلى رحاب الفوضى قراطية، ويتمثل ذلك السطو والتحريف في تشجيع هذه الديمقراطيات الناشئة على تبني نموذج الديمقراطية الليبرالية الغربية، تلك الديموقراطية التي عُمدت بأنهر من دماء الأوطان أولًا ثم بأنهر من دماء الشعوب ونهب الثروات لتحقيق الاقتصادات الباذخة، وعبر التشجيع على خوض التجارب الحزبية والتي تسببت في تشظي المجتمعات العربية المتكافلة والمتداخلة في علاقاتها ووشائجها والتي تخطت وقزمت قسرًا أكبر منظومة اجتماعية عربية وهي القبيلة وعادتها وكادت لها بدلًا من التصالح والتعايش معها والنمو من خلالها، ثم أتت ثالثة الأثافي والمُتمثلة فيما سُمي بالمجتمع المدني والذي تطاول على المجتمع الخيري الوقفي المتعارف عليه في الثقافة والموروث العربي الإسلامي. حين نستعرض نموذجًا حيًا من نماذج الفوضى قراطية التي أنتجتها أمريكا في الوطن العربي فأقرب مثال لنا هو العراق، هذا البلد التاريخي العظيم الذي حوله الاحتلال الأمريكي إلى مثال لكل سوء، حيث انتشرت الأحزاب كالفطر السام في بلاد الرافدين لتصل إلى قرابة الألف حزب في زمن ما، ثم أتت المحاصصة لتكريس تشظي الدولة والمجتمع إلى طوائف وقوميات، ثم دعمت أمريكا وشجعت قيام أكثر من (400)جمعية أهلية تحت مسمى تأسيس ثقافة المجتمع المدني، ومولت قيام (6) قنوات فضائية لنشر ثقافة البرتقالة والميوعة وأخواتها، والنتيجة كما تشاهده العين اليوم من نماذج وشواهد ومؤشرات حيَّة على استحواذ العراق على أعلى الأمثلة في الفساد والطائفية والارتهان للخارج.
قبل اللقاء: الديمقراطية لا تقوم ويشتد عودها وتثمر إلا بعد رسوخ الاقتصاد الوطني للدولة وتحقيق نمو علمي ملموس وتطور مجتمعي مشهود في الوعي، أما حين تقوم الديمقراطية قبل تلك الأسس فإنها تكون فوضى قراطية تكرس التخلف ومعول هدم للتنمية والمكتسبات ومُهددا خطيرا للحمة الوطنية ومسببا خطيرا للارتهان والتبعية للخارج.
وبالشكر تدوم النعم..