تساؤلات مُلحَّة من الآن

د. عبدالله باحجاج

رَغم وُضوح النهج السياسي لعاهل البلاد حضرة جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- منذ اول أيام تنصيبه سلطانا للبلاد في 11/1/2020، إلا أنَّ البعض لا يزال حتى الآن لم تصله الرسالة بصورة واضحة، تجلى لنا ذلك من خلال تواصلنا مع الخارج، وكذلك تصرفات بعض الفاعلين في الداخل. ومن هنا، يُمكن القول إن الدولة العُمانية الحديثة التي أسَّسها السلطان الراحل قابوس بن سعيد بن تيمور -رحمه الله وطيب الله ثراه- ستعرف الديمومة كخيار سياسي ثابت ومتوارث بصورة بنائية تراكمية، ترتبط بمراحلها الزمنية المتعاقبة مهما تعدَّدت العهود السياسية وتعاقبت.

ومع هذا ستقتضي المصلحة الوطنية في زمنها الجديد، أن يكون لعاهل جلالة السلطان البلاد هيثم بن طارق المعظم -نصره الله- أسلوبه الخاص في كيفية الحفاظ على الإرث السياسي للسلطان المؤسِّس للدولة العمانية، وكذلك أسلوبه السياسي الخاص في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، وفق الثوابت والمبادئ التي أطَّرت هذه الدولة، والتي أكد عليها جلالته يوم تنصيبه سلطانا للبلاد، وقد تناولناها في مقال سابق.

هذا التناغُم السياسي ينسجم مع الموقف الاجتماعي؛ فالكل لا يزال في حالة انكسار على فقيد الوطن -رحمه الله- والكل في حالة دعاء له من القلب، ولن ينسى بن سعيد كما يطلق عليها شيبتنا خاصة النساء في ظفار، لن ينسى من الذاكرة العمانية، وفي الوقت ذاته، الكل يقف مع عاهل البلاد السلطان هيثم بن طارق، ويدعون له بالتمكين والنصر في قيادة البلاد لمواجهة تحديات غير مسبوقة في تاريخنا الحديث؛ سواء على الصعيدين الداخلي أو الخارجي، والداخلي هو الأهم؛ لأن تجربة مسيرتنا انطلقتْ أولا من مواجهة التحديات الداخلية، ولمَّا نجحت انطلقتْ للخارج بقوة الداخل ومتانته وحصانته.

وتتجلَّى هذه القوة الآن في صور عديدة؛ أبرزها: خلو البلاد من الإرهاب والإرهابيين، ومن بذوره السامة، وكل من يظهر فوق السطح متشددا لفكرة ما، جنوحًا لمذهب أو تيار أو منطقة.. يجابه من المجتمع أولا قبل الأجهزة الأمنية؛ لذلك تصنف بلادنا عالميًّا بدرجة "صفر" في الإرهاب، وكذلك تتجلَّى هذه القوة في صورة دولة السلام بجناحيه الداخلي والخارجي وفق مجموعة مبادئ ثابتة؛ منها: مبدأ التعايش مع احتفاظ كل مكون فكري بأفكاره في إطار أدبيات العيش المشترك بين كل المكونات والانصهار في تأسيس كيانات اجتماعية متعددة الأفكار دون أن يبرز فوق السطح ما ينكر ذلك أو يستنكره.

و"الداخل أولا".. فلسفة عمانية مُسجَّلة للفكر السياسي العماني المعاصر، تنمُّ عن وعي أصيل بتأثير الداخل على الداخل من جهة، والداخل على الخارج من جهة ثانية؛ وبذلك كسبت نهضتنا التأييد والتعاطف الخارجي الإقليمي والعالمي؛ لأنها نهضة سلم داخلي وسلام خارجي، ولا يمكن أن يتأتى الأول على حساب الثاني، ولن يتحقق الأول إلا بالتركيز على الداخل أولا.

وهذه الفلسفة نُؤرِّخها لهذه الظرفية الزمنية الجديدة لوجود الكثير من العوامل المشتركة بين بدايات تأسيس نهضتنا الحديثة على يد المؤسس الراحل -رحمه الله- وبين بداية حكم جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله- رغم اختلافها من حيث الماهيات والأحجام، لكنَّ الفلسفة ذاتها صالحة لكل الأزمنة بمختلف تحدياتها، وكل المؤشرات تشير إلى أنَّ مرحلتنا الوطنية في عهد جلالة السلطان هيثم بن طارق، سترتسم بهذه الفلسفة؛ لأنه عهد موسوم بالاستمرار للمسيرة المعاصرة، وقد تجلَّى ذلك في أول خطاب لعاهل البلاد؛ حيث أكد -حفظه الله- على ديمومة الوفاء للمؤسس الراحل، وأكدته خطوات عملية اتخذها -حفظه الله- وكسبت الرأي العام، كبقاء صورة المؤسس الراحل جنبا إلى صورة عاهل البلاد في المكاتب الحكومية ومقار البعثات الدولية.

وستقع مسؤولية الحفاظ على هذا الإرث السياسي على المجتمع والحكومة معا، ومن هذا المنطلق فإنَّ إعادة الحديث عن فرض ضريبة القيمة المضافة بداية عام 2021 كما ورد على لسان معالي الدكتور وزير التجارة والصناعة على هامش منتدى دافوس، أثارت الرأي العام، وتندرج ضمن مرحلة ما قبل استشراف العهد الجديد للتحديات التي ستواجه جهود الحفاظ على هذا الإرث؛ لذلك نتوقعها أن تكون ضمن الأجندة التي تخضع لمختبرات استشراف انعكاساتها الاجتماعية، وهى تعكس رؤى النخب القديمة التي كان جل همها الأرقام فقط، دون الاعتداد بتأثيراتها الاجتماعية حتى لو مست جوهر الإرث السياسي.

ولو أمعنَّا التأمل بالتأثيرات المحتملة لهذه الضريبة، فإنَّ هناك مجموعة تساؤلات موضوعية ملحة لابد أن تطرح من الآن ما دام الحديث عنها قد برز بقوة فوق السطح.. أبرزها:

- كيف سيواجه المجتمع ظاهرة ارتفاع أسعار معظم السلع والخدمات المترتبة على تطبيق ضريبة القيمة المضافة بنسبة 5%؟

- كيف سيكون شكل التغيير الاجتماعي بعد تطبيق هذه الضريبة في ضوء مستويات الدخول التي أغلبها ضعيفة؟

- ما مدى استعداد كوادرنا وأطرنا لتحصيل عائدات هذه الضريبة؟ وفي الوقت نفسه كفاءتها في توظيفها -أي العائدات- لخدمة التنمية؟

- هل تمَّت دراسة تطبيق هذا الضريبة في دول الجوار من حيث سلبياتها وإيجابياتها على مجتمعاتهم واقتصاديات؟

لا يُمكن أن نفكر في فرض الضرائب المباشرة أو غير المباشرة بمعزل عن معرفة قدرة المجتمع على تحملها من عدمه، وهناك الكثير من الاستدلالات التي يمكننا من خلالها معرفة هذه المقدرة؛ منها: حجم الرواتب العامة وسقُوفها المالية، وحجم المديونية الفردية وبالذات السكنية والشخصية الأخرى، خاصة تلك التي يكون أساسها الراتب، فما نسبة أصحاب القروض من تعداد سكاننا؟ إحدى الدول المجاورة التي فرضت قبلنا هذه الضريبة، كانت نسبة 47% من مواطنيها يعانون من القروض، في حين يبحث 13% من البقية عن جهة تُقرضهم، و29% من سكانها لا يستطيعون الادخار بعد ارتفاع تكلفة المعيشة والخدمات بسبب تطبيق هذه الضريبة.

وفي دولة مجاورة أخرى، عندما طبَّقت هذه الضريبة قبل عامين، وصل عدد المواطنين الذين تقدموا للحصول على دعم حكومي إلى 13 مليونا، وهو ما يُشكل 64% من مواطنيها حسب ما نقلته مصادر عن دراسة لشركة نايفورت. وتِلكُم دلالات خطيرة على مؤشر ارتفاع معدلات الغلاء الناجمة عن تطبيق ضريبة القيمة المضافة، فهل لدينا دراسة على انعكاسات تطبيق هذه الضريبة عام 2021 على المجتمع؟

رُبما علينا أن نكون أكثر جرأة في استشراف التداعيات وفق الاعتبارات المختلفة سالفة الذكر، ويكفى هنا طرح التساؤل التالي: كم عدد الفقراء الجدد الذين ستنتجهم سنويا في بلادنا ضريبة القيمة المضافة؟ تساؤل افتراضي نطرحه هنا لكبح جماح أنصار هذه الضريبة؛ فالملايين التي يتطلعون للحصول عليها من هذه الضريبة يمكن توفيرها من كل موازنة سنوية عبر إعادة النظر في الإنفاق من بنود يتجه إليها الآن العهد الجديد، وتبدو الآن مؤشراته إيجابية.

وحجة أنَّ خدمات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية والمواد الغذائية الأساسية لن تمس، لها عدة أوجه، نذكر منها اثنيْن فقط؛ الأول: أن ذلك سيحدث تحولات كبرى ستطال بنية الطبقات، ورُبما تختفي الطبقة المتوسطة، أو تتقلص للأدنى وتتوسع الطبقة الفقيرة، وهنا الخطورة؛ حتى إنَّ هذه الخدمات والمواد الأساسية المحمية من الضريبة لن نأمن عليها ما دام تم استباحة حقوق الطبقة الوسطى، وهذا ثانيا. وبالتالي نقول بأعلى صوت: إنَّ "حالة التغريب" ستخرجنا عن الإرث السياسي للمؤسس، ولا يمكن نسخ العلاقة بين السلطة السياسية والمواطن كما هي سائدة في الغرب؛ فلو فرضنها عبر تطبيق الضريبة، فمن المؤكد أنَّ إرث "الوفاء النادر" سيدخل في عداد التاريخ.

الأكثر قراءة