عُمان.. عهدٌ يتجدد

 

 

د. محمد بن سعيد الشعشعي

ساعات حاسمة مرَّت على الدولة العمانية الحديثة، لكنها ولله الحمد والمنة مرَّت بسلام فـ"ادخلوها بسلام آمنين".. تلك الساعات الحاسمة بدأت منذ إعلان بيان ديوان البلاط السلطاني نبأ وفاة جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور -رحمة الله عليه- فجر يوم السبت الموافق 11/1/2020. مؤمنين بقضاء الله وقدره حتما، وأنَّ كل من عليها فان ويبقى وجهه ربك ذو الجلال والإكرام.

فمنذ بزوغ فجر النهضة العمانية الحديثة عام سبعين وتسعمائة وألف، اعتاد العمانيون على هذا الرجل الذي عمَّر البلاد، وأنار العقول، وجعل الأمن منهجا داخليا، والسلام سراجا وهاجا للتعايش والحوار بين الأمم والشعوب، فعندما يغيب لحظة يصبح القلق والخوف على الأمن والبلاد ومستقبلها، خصوصا وأنَّ جلالته -عليه رحمة الله- لم يكن لديه أبناء ولا يوجد ولي عهد في تشريع البلاد، وأن آلية نقل سلطة الحكم في عمان تمر بعدة خطوات؛ أولها: التشاور بين أفراد الأسرة المالكة الكريمة لمدة ثلاثة أيام، وإذا لم تتفق يتم فتح الوصية التي أوصى بها السلطان الراحل.. هذه السويعات التي يتابعها المواطن عبر شاشات التلفزة لانتظار الجديد، إذ لا ترى سيارة في الشارع أو مارًّا في الطريق، وإنما هدوء ينتابه خوف وقلق وتفكير عميق لمستقبل عُمان؛ حيث لا يعلم كل منا ما قد تصل إليه الأمور بعد تلك السكينة التي ألفناها طيلة الخمسة عقود من نهضة عمان الحديثة، هذه اللحظات الحزينة التي تنكَّست فيها الأعلام وذرفت فيها الدموع وارتجت فيها الحناجر بكاءً وصريخا على فقيد الأمة -طيب الله ثراه.

وعندما صَدَر بيان مجلس الدفاع الذي يطلب من مجلس العائلة الحاكمة الاجتماع لاختيار السلطان الجديد، اتَّجهت الأنظار من داخل وخارج السلطنة إلى جناب الأسرة المالكة العريقة لاختيار من تراه مناسبا لعمان. وقد يطُول هذا الاجتماع لمدة ثلاثة أيام وفق النظام الأساسي للدولة، إلا أنَّ الرد من العائلة المالكة كان حاسما وحكيما وسريعا خوفا على أمن عمان واستقرارها ومستقبلها، واحتراما وتقديرا للسلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- حيث تمَّ الاتفاق بأن تُفتح الوصية التي أوصى بها جلالته، وهذا الموقف الجلل وكيفية نقل السلطة بكل يسر وسلاسة، سيكتبه التاريخ بأحرف من نور في سجلات الأسرة البوسعيدية العريقة. فتحت الوصية باختيار جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- سلطانا للبلاد. وكان اختيار السلطان حضرة صاحب الجلالة هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- ابن عم جلالة السلطان قابوس -طيب الله ثراه- وأحد القائمين على عصر النهضة العمانية الحديثة؛ نظرا لما يتمتع بها جلالته -أبقاه الله- من حكمة دبلوماسية ونظرة مستقبلية ثاقبة وخبرة معرفية شاملة لكل متطلبات الداخل والخارج؛ حيث تولى جلالة السلطان هيثم -حفظه الله- عدة مواقع مهمة طيلة مسيرة النهضة المباركة؛ إذ شغل جلالته منصب وكيل وزارة الخارجية، والأمينا العام لها، وكان مطلعا على أهم الملفات الدبلوماسية؛ وبالتالي يعطينا مؤشرا إيجابيا بأن سياسة عمان الخارجية الراسخة والحكيمة ستكون ثابتة في تعاملها مع كافة القضايا الإقليمية والدولية، وأنَّ السلطنة دائما طائرَ سلام وتواصُل للحوار من أجل التعايش السلمي بين الأمم والشعوب.

المؤشر الثاني أنَّ جلالته -حفظه الله ورعاه- تولى حقيبة وزارة التراث والثقافة بما يقارب العقدين من الزمن، وهذا الملف الآخر ثقيل بالعمل الذي يجمع بين تاريخ إمبراطورية عريقة امتد تاريخها لآلاف السنين، وبين الثقافة والفكر الثاقب لبناء جيل يتواكب مع الثورة الصناعية الرابعة، وفقا لرؤية عمان 2040، التي تولى جلالته متابعتها والإشراف عليها، ونحن نعلم جميعا أن من لا ماضي له ليس له حاضر، وأن المعرفة والتكنولوجيا هي السبيل لرقي الدول وتقدمها، وهنا تعقد الآمال العظام على مليكنا وولي أمرنا -حفظه الله ورعاه.

ختاما.. نترحَّم على فقيد الأمة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- ونهنئ ونعاهد مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حظه الله ورعاه- بأن نكون صادقين مخلصين لهذا الوطن الطاهر.

ونتوجه بكلمات الفخر والشكر والثناء، إلى جناب العائلة المالكة الكريمة، وإلى الأوفياء مجلس الدفاع ورجال القوات المسلحة البواسل، وإلى المواطنين المخلصين لعُمان، وإلى كل مواطن خطَّ بحبره من أجل الوطن الكبير عمان.