لا أريد لهذا العهد أن ينتهي

 

 

د. سيف بن ناصر المعمري

 

"الآن أنت اثنان، أنت ثلاثة، عشرون، ألف"

شعب، بلد، أمة، عالم بأجمعه ..

الآن، في فجر هذا السبت، "نحيا ماضياً وغداً معاً

ونسير في جهتين"، نسير إلى القصر لنضمن الغد

ونمضي إلى المقبرة لكي نكرمك بما يليق بك،

جهتان كلاهما تقودنا

إليك، ما زلت هنا وأنت هناك،

ما زلت تبني لنا أبراجا من التقدير في عالم ما عاد

يحتفل لموت أحد، ولا لفقد أحد، فصوت الضجر

غطى على كل شيء، لكن صوت نعيك كان أعلى من كل صوت

لا نسأل من نحن، بل نسأل من أنت

وكيف استطعت أن ترتق ثوب

الانقسام، وتجمع شمل الشتات

وتعيد الدماء إلى أوردة التاريخ

وتزرع في الأرض خمسة عقود

تزهر إنسانا ومحبة وتسامحا ووعدا آخر

لم يحصد بعد..

وطنيون عاطفيون مطيعون

أوفياء، محبون بدون تكلف

هل تسمعنا؟ "نحن ما زلنا هنا"

لم نرحل.. كما أنك لم ترحل

سنظل ندق على الجدار بالدعاء

فما تزال لنا "أحلامنا الكبرى"

التي لا يعرف حدودها إلا أنت

فأين هو المدى سيدنا

وأين هو سقف السماء؟

الذي ظللت ترفعه وترفعه لكي

نرفع تحته رؤوسنا أكثر وأكثر

أنت حي ونحن باقون و"للحلم بقية"

في هذا السبت لا نعرف الأمس

من الغد.. نصحو وكأننا لم ننم

وننام وكأننا لا نريد أن نصحو كما

اعتدنا من قبل.. لأننا نخشى من فجر لا

شمس تشرق فيه

حتى الآن لا نزال نعتقد أننا نقف في مسرح

والمخرج قرر تغيير المشهد الأخير من المسرحية

ولكن هناك ألف مشهد يمكن

أن تنهى به

إلا مشهد التابوت والمسجد، والعربة

والسير فجرا في اتجاهين، نصفنا

حي ونصفنا ميت،

"وعلى الموتى هنا والآن" أن يستنسخوا أسماءهم

فهل تعرف كم واحد منا اسمه أنت؟

وهل تعرف كم واحد منا مات حين مت أنت؟

أنت لا تزال هنا تحمل معنا عبء الغد

كما حملت عب الأمس خمسين عاماً

أتسمع .. "صوت للنهضة نادى" من زوايا

مسقط القديمة.. حيث النهار لا يزال

لم يكتس ألوانه التي عرفناه خلال فجر هذا السبت

هل أنت كبرت سريعا

أم نحن كبرنا؟

لما تلخبطت المواعيد.. ومضى القطار بك

قبل أن نلمحك في المحطة

لما أصبح للحقيقة حقيقة أخرى

"أنت أنت" ولو رحلت

ونحن نحن كما عرفتنا

.. فلا أحد سيعود إلى اسمه

وأنت تحيا فينا.. وتحيا

في الشارع

الذي نزدحم فيه صباحا.. ومساءٍ

وعلى واجهة المدرسة، والجامعة

وفي نشرة أخبار العاشرة

وفي دعاء الجمعة.. وفي صورة العملة

وفي زرقة البحر

على واجهة مطرح، وفي بهجة صحار

وشموخ منح، ورباط صلالة،

فنم واحلم.. فما أجمل الحلم حين يرحل

العظماء إلى الأبدية.. وردد

"أرى مكاني كله حولي أراني في المكان بكل أعضائي وأسمائي

أرى شجر النخيل ينقح الفصحى من الأخطاء في لغتي"

في خطاب الفجر الأول، الذي لا يزال صداه يتردد

في جبال الحجر، وفي خطاب سيح المكارم حيث

لا أوراق ولا منصة، وفي خطاب مجلس عمان

حين كان يقلقك أن تخلط الحروف والألفاظ فتضعف

السجايا

ليس لدينا ما يكفي من لغة

ومن كلمات، لنعبر بها عما جرى فجر السبت

فقد أعتدنا أن تُعبِّر عن المعنى

فنحن دائما ضيوف على موائد بلاغتك

"فأشرق بالكلام"

قبل أن "تشرق الكلمات بالدمع العصي"

أشرق بالكلام

ودعنا ننسى كل ما أذيع في عتمة ذلك الفجر

دعنا لا نطيل الحديث عن الوصية

ولا عما سيجري ولا عما جرى

ولا عن الرحلة الأخرى

ولا عن القطار الذي تأخذ تذاكره فجأة

لا نحب أن تستقل قطار الفجر

لأننا نعرف أين هي محطته الأخيرة

دعنا نعيد الحديث عن الأمس

والسنوات البعيدة

فقد أنسانا التفكير في الغد

قيمة الذاكرة.. وجمال الذكرى

لماذا تصر أن ترحل وأنت لم تؤدِّ

بعد تحيتك العسكرية الأخيرة

لما تصر أن تؤديها للغيب؟

وجندك في كل الشوارع يترقبون موكبك

لأداء التحية.. ليطمئنوا أنك لا تزال

هنا..

فلا خوف عندها من الغد

لأن يحضر معه غد آخر

ولا نسأل عندها عمّا جرى

وعمّا سيجري.. مطمئنون بك

ومعك.. فلم ذهب بك القطار؟

وجعلتنا خارج المحطة ننادي

باسمك علك تخرج لتقول لنا:

لا أريد لهذا العهد أن ينتهي

ولا أريد لهذا البلد أن يحزن

ولا أريد لهذه الدموع أن تتكسر

كشظايا البلور..

لكنك لا تخرج.. تصر أن تكمل رحلتك الطويلة

في عالم مختلف أبدي سرمدي

حيث جزاءك "روح وريحان وجنة نعيم"

سبت الأمس مضى. فهل نستطيع ترتيب ما جرى؟

"لن نغير شيئا من الأمس لكننا نتمنى غداً صالحا

للإقامة" لك ولنا...

 

 

** الكلمات بين علامتي التنصيص، مقتبسة من قصائد للشاعر محمود درويش.