عندما تبكي السماء

مدرين المكتومية

مرارة الرحيل وحزن الفراق.. شعوران يصعب على المرء تحملهما أو إخفاؤهما، فكيف يكون الحال والراحل هو والدنا جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور طيّب الله ثراه وأسكنه فسيح جناته..

أن نكتب يوما كلمة الرحيل، أو الغياب، أو الموت، مسألة عسيرة وتحدٍ مرهق لذواتنا قبل أعصابنا، خاصة إن كنا سنكتبها مودعين من نحب ومن نرى في عينيه العالم، والعالم يرانا من خلاله، عندما نضطر لأن نكتب يوما (رحمه الله) بعد أن كنا نردد (أبقاه الله)، عندئذ يكون الأمر أشبه بمن يخط وصيّة رحيل لمن يحبهم.. وقتئذ يتوقف الزمن ونغوص في حالة من الصدمة والفجيعة؛ لأنّ الفقد مؤلم وموجع ومُشل، لا يجعلنا نقوى على البوح أو الكتابة أو حتى النطق، خاصة أننا عجزنا فعلا عن التصديق أو عجزنا عن اختيار مفردة تليق بذلك الرحيل، سوى أنّه رحل كما أتى إلينا ببساطة تملؤها العزة، وهدوء يصاحبه صخب الفراق.. رحل السلطان قابوس وترك أمة بأكملها أحبته كما لم تحب أحدا من قبل.

أبي قابوس.. رحيلك أبكى العالم وأوجع قلوبنا قبل عيوننا، السماء أيضا بكت، وانهمر الماء في أنحاء بلادنا، وتساقطت حبات المطر على قبر جلالته فكانت بردًا وسلاما، فقطرات الأمطار التي هطلت في 11 يناير لم تكن هي نفس الأمطار التي هطلت في أي يوم آخر، لأنّ قطرات 11 يناير كانت أشبه بدموع السماء، في مشهد أليم وحزن عميق على رحيل أب حنون وقائد حكيم، لم أرَ غيره منذ أن جئت إلى هذه الدنيا، فعندما تعلمت حروفي الأولى، كانت كلمة "قابوس" أول ما نطقت، تزامنت مع كلمتي "أمي وأبي"، ومنذ الصغر لم أكن أعرف سواه حاكمًا وقائدًا لنا، صحيح أنني لم أعش البدايات الأولى من عمر النهضة المباركة ولم أكن حاضرة أولى مراحل البناء والتشييد، لكنني رأيت دموع جدي- رحمة الله عليه- في لحظة ما وهو يحكي لي البدايات الأولى، ودموعه تنهمر ويداه ترجفان وعروقه نابضة، كلما قارن بين عمان الماضي وعمان الحاضر الذي نعيشه.. رأيت ذلك في الصور التاريخية والمراجع والكتب التي أطلع عليها بين الفينة والأخرى، كلها تروي البون الشاسع بين ما كان قبل 23 يوليو 1970 وما حدث بعد ذلك التاريخ المجيد. الجميع يبكي عندما يتذكر عمان الماضي، ويتذكر كل مغترب عاد إلى أرض الوطن تلبية لنداء جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور- طيّب الله ثراه- لينهضوا معه بعمان التي يريدها أن تكون ويريدونها أن تكون، ليصنعوا من عمان الحلم واقعا يحياه كل من يعيش على تراب هذا الوطن الطاهر.

مرّت السنوات وكبرنا وكبر الحلم لنرى شواهده تتحقق وكبرت معنا الحقائق وبدأنا نرى كل شيء بأعيننا ونعيش مراحل التقدم والبناء لعمان الحديثة التي خطط لها يوما، فكبرت عمان بحجم الأحلام التي عشناها.

وبحكم عملي الصحفي والإعلامي، كنت شاهدة عيان على العديد من الأحداث الكبرى وأُتيحت لي الفرصة للتعرف على كواليس الكثير من الوقائع، التي تروي جميعها مسيرة بناء النهضة ونشر بساط التنمية الشاملة. خلال مراحل إدراكي المختلفة، شاهدت بنفسي النقلات النوعية التي تعيشها عمان على كافة الأصعدة والمستويات داخليا وخارجيا، بدأت أرى كل الأحداث بتفاصيلها الدقيقة ومراحل تطورها وتقدمها حتى وجدت نفسي لا شعوريا أحمدُ الله ليل نهار أنني أعيش على هذه الأرض الطيبة وتحت ظل قيادة حكيمة.

ولأنني على يقين تام بأنّ عمان دائما بخير كما أراد لها جلالة السلطان الراحل رحمة الله عليه، فإنني على يقين أشد بأنّ حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور المعظم -حفظه الله ورعاه- سيمضي على الدرب ويسير على النهج الذي أراد له جلالة السلطان قابوس.

ومما يبرهن على ذلك، الخطاب الأول الذي ألقاه جلالة السلطان هيثم بن طارق- أيّده الله- وأكّد فيه على الحفاظ على كل المكتسبات والسير على النهج القابوسي والعمل لما فيه صالح الوطن والمواطن.

ومن هنا فإنّ الدور الملقى على عاتقنا جميعا كمواطنين، أن نعمل بكل جهد وفناء وبكل طاقاتنا وكل في مجاله ويدا بيد لاستكمال مسيرة التنمية، والنهوض بعمان لتكون دائما في مصاف الدول المتقدمة في شتى الميادين والمجالات.